أي حاجة لرفع التمايز بين وظيفتي التربية والدعوة في مشروع التنظيمات الإسلامية؟
مريم رضوان
دعتني أجواء الجمع العام الوطني لحركة التوحيد والإصلاح إلى تمرين تأمل وتفكير في مسألة تقليدية، فكانت الفرصة بمثابة خلخلة لفكرة جاهزة، اعتدت على الاعتقاد بها إلى أن وجدت نفسي أضعها موضع السؤال ثم النقاش، تلا ذلك الخلاص إلى نتيجة متفردة.
كان السؤال حول الغاية من الفصل بين التربية والدعوة في أوراق وأهداف ووسائل مشروعنا الإصلاحي، خصوصا مع تنامي حضور المصطلحين بشكل منفصل في نفس الهيأة، حتى صار لكل منهما مستقبلون مختلفون. ففي الجسد التنظيمي الواحد، نستهدف بالتربية فئة دون التي نستهدفها بالدعوة، وهذا ما أستغربه اليوم بعد أن كنت مقتنعة به تمام الاقتناع قبل عدة أشهر مضت.
التربية في مفهومها اللغوي مشتقة من فعل ربا يربو بمعنى الزيادة، وهي بذلك تقترب، عندما تكون الزيادة في خير، من مفهوم التزكية، والمشتقة من فعل زكى بمعنى نمى. والمقصود بها في رسالة الإسلام، الزيادة في الخير، والتنشئة عليه.
وأما الدعوة فهي من فعل دعا يدعو، وهي مصطلح مجرد، يحتاج بطبيعته إلى ما يشرح وجهته، فالدعوة في الرسالة قد تكون إلى خير، كما قد تكون إلى شر. وإنما أستحضر هنا سياق الدعوة في مشروع الرسالة الربانية، حيث يقول عز وجل في كتابه الحكيم: “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”.
بعد هذا البسط المقتضب للمفاهيم، نأتي على وضع الإشكالية، فقد اعتدنا في تنظيماتنا على التمييز بين وظيفة التربية ووظيفة الدعوة، معتبرين بأن التربية أمر يخص بالدرجة الأولى الحاملين لرسالة الدعوة، فهم قد وجب عليه الامتلاء قبل دعوة الناس إلى الخير. فالتربية إذا عندنا وظيفة داخلية، والدعوة وظيفة خارجية.
تتجلى وسائل تنفيذ هدف التربية في الجلسات التربوية والملتقيات الإيمانية، والتي يكون معنيا بها أعضاء التنظيم والمنخرطون فيه، بينما تتجلى وسائل تنفيذ هدف الدعوة في الحملات والمحاضرات الدعوية. ولحد الآن يبدو الأمر مفهوما يسير الاستيعاب بالنظر لاعتبار بناء النفس قبل الانتقال إلى دعوة الغير، ولو للخير، فالعلم بالشيء يسبق الحديث عنه، كما هو معرف بالمنطق.
أما اليوم، وأقصد باليوم سنينا تراكمت، والتي إن صح لي التقدير بما عشته في عمر التنظيمات قدرتها بثمان سنوات من أصل المجموع بعد إضافة ربعه، فما عاد للفصل بين المفهومين أي معنى. لقد كان التعبير القرآني واضحا حين جعل الدعوة إلى الله وصفا لرسالة الإنسان في الأرض، وهي رسالة توجه إلى المؤمن كما إلى الكافر، رسالة تدعو إلى الإيمان بالله والعمل بما يرضيه والخوف من عصيانه. هي رسالة يشترك فيها المجتهد والمقصر بما عَلِمَاه، ويشترك فيها المحسن والمذنب بما عَلِمَاه أيضا، إذ أن العلم هو شرط وجوب الدعوة.
من هنا إذا نخلص إلى أن التربية في مفهوم المشروع الإسلامي هي دعوة إلى الله عبر الدعوة إلى الارتقاء الإيماني والتصوري والسلوكي للفرد حتى يشمل صلاحه عموم جوانب حياته الفردية والجماعية. وبما أن مقصود الدعوة في نفس المشروع هو تحصيل الاستقامة التي تميز السلوك الإسلامي فرديا وجماعيا، فهذا يجعلنا أمام نفس الوظيفة، ونفس التعريف بمصطلحين مختلفين.
يكمن جوهر الخلل في كون القاعدة المستهدفة ليست هي نفسها ولا الوسائل هي ذاتها، وهذا التباين أحدث في الحقيقة شرخا نفسيا وبشكل ضمني بين العاملين في إطار التنظيمات، ومع تراجع فعالية الأشكال التقليدية العاملة على إنجاز هدف التربية، أضحت الدعوة بمفهومها التنظيمي محط الأولوية، وضعفت القدرة على التأطير التربوي لفقدانه وهج المهتمين ببناء الإنسان المتكامل، بسبب الانخراط في مواكبة عوامل العصر المتقلبة، والميول إلى التقنة بعيدا عن المعاني اللامادية، كما توسعت الهوة بين حياة القلوب وحياة الأبدان كنتاج تأثير الحداثة السالبة.
إن التزكية أو التربية هي نتيجة مرتبطة بالفرد، ولا سبيل إلى تحصيلها غير سبيل الله واتباع الرسول، كما جاء ذلك في الآيات: في سورة البقرة “رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ “، وفي سورة النور “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ “، وفي سورة الشمس “قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا”. أي أنها نتيجة لا تقبل التقييم من طرف البشر، بل الله من يتولى إقامتها في الإنسان، بعد أن يقوم هذا الأخير بالاجتهاد في عمل الأسباب.
في حين أن الدعوة إلى الله هي سبيل لتحقيق مفهوم الإسلام، وإثبات الانتماء لمجتمع المسلمين، وقد جاءت الدعوة في سياق الآيات بما يستدعي هذا الفهم، يقول تعالى في سورة يوسف “قُلۡ هَٰذِهِ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ”، وفي سورة النحل “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”، و في سورة فصلت “وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ”.
بالنظر إلى هاته التأملات، يظهر لنا أن الأولوية في الوظائف التي ترتكز عليها فكرة الإصلاح هي للدعوة إلى الله، وأما التربية والتزكية فهي مشمولة بنفس الدعوة، والتركيز على هذا المفهوم إنما من شأنه أن يوضح الذي أصابه التهميش لعجز المؤشرات عن قياسه، كما سبق في التوضيح.
فباعتبار أن الدعوة إلى الله شعار وعنوان ناطق، فهو أكثر وضوحا وشمولية ومعنى، يستدعي الإقبال عليه بما ييسر للناس الفهم ويقربهم من استيعاب المآل والنتيجة، فهو أجدى وأنعم كوظيفة ترتجى.
كما أن لفظ الدعوة إلى الله يسوي بين الناس في مسألة الفعل والتلقي، وهذا يجعل من أعضاء الحركات الإسلامية ومنخرطيها والمتعاطفين معها وعموم الناس على نفس الهدف والغاية، بقدر اجتهادهم واستجابتهم تتباين درجات السعي، ولكنها لا تأخذ منحى مختلفا أبدا، ولا تصنف الناس بناء على ما لا يعلمه أحد إلا الله. ولعل الإشارة هنا أدعى، بالتأمل في الحال الذي صار عليه بعض المنتمين ممن قضوا مدة في التنظيم ثم ابتعدوا فتغيرت سلوكياتهم حتى لوحظ منها الشاذ والغريب، وذلك بعد أن كانت صفة التزكية متحصلة للرائي من داخل المكون التنظيمي لمدة طويلة من الزمن، ويغنينا عن هذا الحكم صرف النظر عن أمر التزكية وتركها لمن خلق الإنسان وصوره.
ومفهوم الدعوة إلى الله يستهدف أيضا القائم بالمعروف ليزيد في معروفه ويستهدف القائم بالمنكر ينهاه عن فعله، وهذا أمر الله المتحقق بالدعوة إليه حصرا، فالتبشير بالجنة والإنذار من العقاب غايته الأساس، توجيه الناس إلى الخير وإبعادهم عن الشر، في أنفسهم أولا ثم فيما بينهم.
وأخيرا، فإن مصطلح الدعوة إلى الله هو جوهر الرسالة وهو الوظيفة القابلة للقياس والواجبة للتنزيل، فحيثما وضعت الرسالة، جعل الله الغاية فيما يؤسس من تشريعات بها، وجعلت هي الطريق نحو النجاح في امتحان الاستخلاف، وأما النتيجة فبيد الله وحده، إن شاء جعل النفوس مطمئنة والقلوب طاهرة زكية، وإن شاء لم يزكها.
من هنا إذا أتصور أنه آن الأوان لرفع هاجس التربية عن عاتق التنظيمات الإسلامية ومعانقة هاجس الدعوة إلى الله عوضا عن ذلك، فهو السبيل إلى تزكية نفوس البشرية، دون تفضيل، أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وتوحيدا للجهود والصفوف.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
حرر في فاس، 18/10/2022، الموافق ل 22 ربيع الأول 1444.