الأخطاء الخمسة للتيار السلفي بالمغرب عند الدكتور فريد الأنصاري
عبدالإلاه بوديب - عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التجديد الطلابي
توطئة
لقد شغل تقويم ونقد العمل الإسلامي بالمغرب حيزا كبيرا من اهتمامات الدكتور فريد الأنصاريّ، لكنه -في الغالب- يتم استثماره باتجاه واحد وطريق واحد، هو نقد تجربة حركة التوحيد والإصلاح وشريكها السياسي حزب العدالة والتنمية، رغم أن مشروع تقويم العمل الإسلامي الذي نهض به الدكتور فريد الأنصاري، لا يشمل الحركة الإسلامية الإصلاحية فحسب، بل يتعداها إلى مختلف العاملين الإسلاميين، لذا شمل نقده تيارات أخرى كجماعة العدل والإحسان والدعوة والتبليغ والتيار السلفي!
إن كتابه الأشهر في نقد الحركة الإسلامية “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية”، كما هو غير متوقع، قد ضمنه نقدا لاذعا للتيار السلفي، سنعرض له بإيجاز في هذا المقال، بمناسبة الذكرى 13 لوفاته -قدس الله روحه ونور قبره- للكشف عن إحدى الجوانب المغمورة في فكر الأنصاري؛ التي لا يتم الالتفات إليها عادةً، بالنظر إلى كون المشرب السلفي كان أحد المشارب الأساسية التي صاغت فكر الشيخ الأنصاري وشخصيته.
الأنصاري والحركة السلفية
على الرغم من الإعجاب الكبير الذي كان يبديه الشيخ الأنصاري بالحركة السلفية سواء في صيغتها الوهابية أو السلفية المعاصرة أو المغربية، وإجلاله لرموزها ورجالاتها بدءا بتقي الدين ابن تيمية وانتهاء بتقي الدين الهلالي، لدرجة أنه جعل من أحد رموزها المعاصرين المشهورين وهو؛ المحدث ناصر الدين الألباني يبلغ درجة أمير المؤمنين في الحديث! -وهو وصف لا يخلوا من مبالغة واضحة-.
كما أن من يطلع على عدد من مؤلفاته يجد أنها إما ممزوجة بنفس سلفي واضح ككتابه “التوحيد والوساطة في التربية الدعوية”، أو أنها محاولةٌ لتطوير بعض الكتابات السلفية بنفخ الروح الحركية والصوفية فيها، كما يظهر في كتابيه «قناديل الصلاة» و «سيماء المرأة في الإسلام» خصوصا عند مقارنتهما بكتابي المحدث الألباني «صفة صلاة النبي» و «حجاب المرأة المسلمة».
دون أن ننسى الموافقات العلمية بين بعض قناعات الدكتور الأنصاري والحركة السلفية، خصوصا في أبواب العقيدة وبعض أبواب البدع، وهو ما يجعل من نقده، نقدا يستوجب الإصغاء، لكونه لا يمكن بحالٍ أن يرمى بالتحامل أو الجهل بأصول هذه المدرسة ومقرراتها، وآثارها على العمل الدعوي بالمغرب.
إن هذا الإعجاب والنهل الأنصاريَّ من المدرسة السلفية لم يحل بينه وبين محاولة تقويم هذا التيار والكشف عن أخطائه المنهجية خصوصا في البيئة المغربية، حيث خصص لهذا الغرض ثلث كتابه الشهير “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية” ولعلّ العنوان الأليق بمضمون الكتاب هو “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية والتيار السلفي”، لكن سطوة العنوان وتفاعل رموز الحركة الإسلامية مع الكتاب جعل من الباب الثاني والأخير منه، جزءا يكاد يكون غير مقروء ولا ملتفت إليه على نطاق واسع، ولعل هذه المقالة تنجح في تسليط الضوء على هذا الجانب من تراث الشيخ وتساهم في حركية تقويم العمل الإسلامي وترشيد التدين المغربي.
السلفية بالمغرب واختلال الموازين
يؤرخ الدكتور الأنصاري لبداية الانحراف السلفي بالمغرب مباشرة بعد وفاة الدكتور تقي الدين الهلالي (ت. 1987م)، هذا الانحراف الذي سينتج حسب الأنصاري “عقارب خضراء” أشد خضرة من عقارب الحركة الإسلامية، وأشد لسعا منها! (الأخطاء الستة، ص 89)، وسيكون لها الأثر السيء على واقع الدعوة بالمغرب، فتحولت السلفية بالمغرب، بل وفي العالم، بعد أن كانت سلفية إصلاح وتجديد، أضحت سلفية شكلانية مستصنمة لرموز ومشايخ السلفية ومرجعيتهم الحنبلية النجدية، سلفية متخصصة في التبديع والتضليل وفي أحيان أخرى في التكفير والتقتيل (الأخطاء الستة، ص 95).
وقد كان سبب هذا الانحراف في التيار السلفي عند الأنصاري هو اختلال بعض الموازين عند هذا التيار بالمغرب، هي كما رصدها رحمه الله:
أولا: اختلال ميزان الحكمة
ومن أكبر تجليات هذا الاختلال، حسب الأنصاري، أن الحركة السلفية لم تراع خصوصية البيئة المغربية، وعملت على استنساخ التجربة الوهابية النجدية في المغرب بحرفية تامة، ودون مراجعة أو اجتهاد، مما جعلها أكبر زلاتها المنهجية (الأخطاء الستة، ص 91)
ثانيا: اختلال ميزان الإنصاف
وتجلى هذا في عدم إنصاف التيار السلفي لغيره من العاملين الإسلامين، سواء كانوا حركيين أو متمذهبين أو متصوفة أو رسميين، وعملت على طمس فضائلهم وتضخيم أخطائهم ومؤاخذتها عليهم، وتبديعهم في كثير من الأحيان “ولم تحترم مراتب الأحكام على البدع إلا قليلا” (الأخطاء الستة، ص 91)
ثالثا: اختلال ميزان الحلم
وذلك من خلال اشتدادها المفرط في نقد المخالفين لها، حتى في بعض الجزئيات الفقهية، وصل بها إلى استخدام قواميس السب والشتم في حق كثير من رموز الدعوة والعلم، وهكذا حسب الأنصاري فقد “خسرت الدعوة السلفية في امتحان الأخلاق للأسف!” (الأخطاء الستة، ص 92)، وتحولت إلى دعوة للتفريق والتشرذم.
وبسبب اختلال هذه الموازين الثلاث فقد انحرفت الحركة السلفية إلى مستويات وصلت حد التوظيف “لضرب الإسلام نفسه!” (الأخطاء الستة، ص 92)، ونتج عنها وقوعها في أخطاء منهجية فادحة على الدعوة بالمغرب.
التيار السلفي وأخطاؤه المنهجية الخمس
لقد رصد الأنصـاريّ خمس أخطاء منهجية وقع فيها التيار السلفي بالمغرب، وإن كانت جميعها متفرعة عن خطئها الأكبر “الاستصنام للحنبلية المشرقية” والترويج لها على أنها هي الكتاب والسنة! ومخالفها مخالف للكتاب والسنة، وهي في الحقيقة لا تعدو كونها فهما حنبليا نجديا للكتاب والسنة.
وقد عمل الأنصاري على بيان وتوضيح مظاهر هذا الاستصنام الذي أصاب التيار السلفي، وما تفرع عنه من أخطاء منهجية، كان لها الأثر السلبي على واقع الدعوة الإسلامية بالمغرب، وهي بتركيز شديد كما يأتي.
الخطأ الأول: الإعراض عن المذهب المالكي واختلال ميزان الأولويات
لقد تسبب إعراض التيار السلفي عن المذهب المالكي ودراسة تاريخه في بيئة مغربية يعتبر المذهب المالكي أحد ركائزها الأساسية، في وقوع في خطإ منهجي كبيرا أدى به بدل محاربة البدع والخرافات، إلى التصادم مع المذهب المالكي، وهذا بسبب جمود السلفية بالمغرب على تقليد الحنبلية النجدية.
وكان حريا بها ملاءمة أفكارها مع رموز المذهب المالكي وأعلامه؛ الذي يزخر بعلماء كبار تصدوا لمحاربة البدع والخارفات.
وبهذا انحرفت السلفية بالمغرب عن القضايا الأساسية للدعوة الإسلامية، وانشغلت بقضايا هامشية دون وعي بآثارها الاجتماعية بالمغرب، كالاشتغال بتبديع قراءة القرآن جماعة «الحزب الراتب» الذي ستكون نتيجته الطبيعية حسب الأنصاري هي “حجب القرآن على الناس! والإسهام في تضييق دائرة الاشتغال به والإقبال عليه! ولو علموا طبيعة الظروف المحيطة بهم لكانوا هم أول من يقرؤه” (الأخطاء الستة، ص 110).
الخطأ الثاني: الغلو في التحقيقات العقدية
لقد كان ولا زال أحد أكبر انشغالات التيار السلفي بالمغرب هو مواجهة الأشعرية بإطلاق، وإحياء الخلافات العقدية الكلامية القديمة، وبثها بين جمهور الناس وإدخالهم في متاهاتها، وهو ما لا يمت بصلة إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام!.
لقد ساهم هذا الهجوم السلفي على الأشعرية بإطلاق بشغل المجال الدعوي بالمغرب بقضايا هامشية بائدة، فضلا عن ما فيه من جناية علمية على الأشعرية التي ليست توجها واحدا، ففيها الأشعرية السلفية/ الأثرية كما جسدها الأشعري في الإبانة، كما أن فيها الأشعرية التأويلية والفلسفية.
لكن تقليد المذهبية الحنبلية ومحاولة استنساخ التجربة النجدية الوهابية جعلهم يتجاهلون هذا الأمر، بل ويعتمدون مقررات حنبلية صرفة في تقرير العقيدة السلفية، بدل استثمار كتب الأشعرية ككتاب الإبانة للأشعري، وشرح القاضي عبد الوهاب المالكي على مقدمة ابن أبي زيد القيرواني، وكتاب النور المبين لابن جزي الغرناطي، وهو ما سيؤدي بسبب استهداف التيار لجمهور الناس، وشحنهم بأحكام عقدية وفقهية دون فهم أو علم، إلى انتشار “الفتاوى والبلاوى” في البلاد، وتصدر الجاهلين والفاشلين دراسيا إلى الحكم على الناس والقول على الله بغير علم! (الأخطاء الستة، ص 114، 115).
الخطأ الثالث: مواجهة التصوف بإطلاق
لقد تسببت مواجهة السلفية بالمغرب للتصوف بإطلاق دون مراعاة لطبقات الصوفية ودرجاتهم، إلى جناية على هذا العلم الإسلامي الجليل؛ الذي لم ينكره بإطلاق حتى كبار مراجع السلفية المعاصرة مثل الشيخ تقي الدين ابن تيمة وابن القيم الجوزية، وقد زاد من أسباب فشل هذا المشروع السلفي في مواجهة التصوف، حقيقة أن المغرب بلد صوفي بامتياز، وهو ما جعلهم يصطمون بتيار شعبي قوي متمسك بالإرث الصوفي؛ الذي يلبي حاجياتهم الروحية والتي لا توجد في التيار السلفي.
وكانت الحكمة تقتضي تطوير خطاب متوازن أولا تجاه الفكر الصوفي، بذكر محاسنه وأفضال رجالاته، في نفس الوقت الذي تحارب فيه انحارفاته، التي كان أول من ينبه لها هو كبار المتصوفة كالشيخ أحمد زروق، بالإضافة إلى بث الروح الربانية الندية في الخطاب السلفي للاستجابة لحاجيات العطاشى روحيا في المغرب (الأخطاء الستة، ص 118)
الخطأ الرابع: تضخم المظهرية الشكلانية
لقد صار “المظهر الخارجي هو المقياس الأساسي لسلامة الدين لدى كثير منهم. وغدا إعفاء اللحية وتقصير الثوب بالخصوص هو المقياس الأساس للالتزام بالدين!” (الأخطاء الستة، ص 119)، وإن كان الهدي الظاهر له أهمية لا تجحد في الدين، إلا أن الاستصنام للشكلانية على حساب الحقائق الإيمانية، وتضخيم غير المضخم في الشريعة، إخلال بميزان الأولويات وإضرار بالدين من غير قصد.
وقد سبب هذا التضخم الشكلاني في التدين فيما يسميه الأنصاري ب”اللا وطنية في اللباس؛ تقليدا للمشارقة، عربا وعجما، فصار اللباس الأفغاني موضة التدين بين فريق من الناس زمنا، ثم صار اللباس الخليجي هو الغالب بعد ذلك.
وخاصة أشكال التنقب لبعض النساء! اللائي صرن يتصرفن بطريقة الخليجيات في التحجب، وكان أولى بهن لو صدقن في تدينهن حقا -أن ينتقبن- إن كان ولا بد، بطريقة المغربيات الأصيلات” (الأخطاء الستة، ص 120).
إن هذا التضخم الشكلاني على حساب الحقائق الإيمانية أدى إلى أن ينبت منهم قوم لا يجدون أي غضاضة في نقد المخالفين بأنواع السباب والشتم.
الخطأ الخامس: الارتباط المادي المشروط ببعض الدول المشرقية
وبالنظر إلى حساسية هذا الخطإ فإني سأترك الأنصاري بنفسه يتحدث عنه، يقول -رحمه الله-:
“والسبب الرئيس في اصطباغ السلفية الدخيلة بالمذهبية الحنبلية – لدى بعضهم – إنما هو الارتباط المادي بدول الخليج!
وأنا أزعم أنه لولا «البترول» لما كان للحنبلية – في ثوبها الجديد- كل هذا التأثير على كثير من دول العالم الإسلامي! الشيء الذي دفع بعض الانتهازيين إلى تصدر قيادة التيار السلفي أو الانتماء إليه على الأقل؛ طمعا في الحصول على دعم مادي يخرجه من الفقر إلى الغنى، أو منحة دراسية بالمشرق تفتح له الآفاق، أو منصب «الداعية» بالخارج يتقاضي عليه أجرة شهرية منهم، أو نحو هذا وذاك.” (الأخطاء الستة، ص 124)
خاتمة:
لقد حاول الأنصاري رصد أبرز الأخطاء المنهجية للتيار السلفي بالمغرب، والتي تعود في مجملها إلى الاستصنام للمذهبية الحنبلية، وترويجها باسم الكتاب والسنة.
ورغم الملاحظات التي يمكن إبداؤها على هاته الأخطاء إلا أن عمق نظر الأنصاري وإحاطته بالتيارات الدعوية بالمغرب، تكشف عن استقلالية استثنائية عنده، وكما هو بدهي فإن نقد الأنصاري لمختلف التيارات الإسلامية بالمغرب لا يعني التنكر لكل أفضالها، بل فقط التنبيه على جانب من أعطابها من أجل تجويد العمل الإسلامي بالمغرب وتقويته.