الدعاة الجدد بالمغرب: تطوير للدعوة أم إساءة لها ؟
عبدالإلاه بوديب - عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التجديد الطلابي
“كان الوعاظ في قديم الزمان علماءَ فقهاءَ”
ابن الجوزي
لقي مؤخرا مقطع لأحد الدعاة الجدد بالمغرب موجة جدل كبيرة بين ساخر ومؤيد، حيث دعا في المقطع المذكور إلى ضرورة تدريس مادة الفيزياء بطريقة إسلامية، “فيزياء مسلمة” على حد تعبيره.هذه الموجة الواسعة من التفاعل الجدلي، دعتني للتفكير في موضوع الدعاة الجدد وطبيعة الموقف المتزن من خطابهم، وهل يمكن النظر إلى هذا النوع من الخطاب نظرة إيجابية من حيث قدرته على الانتشار والتأثير، أم أن له تأثيرا سلبيا على هيبة الدعوة، وخروجا عن وظيفتها الأساسية التي هي دفع المخاطب للالتزام بالتعاليم الدينية بالترغيب أو الترهيب؟!
لكن قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من التوقف عند فهم هذا النوع الجديد من الخطاب الدعوي.
فمن هم الدعاة الجدد؟ وبم يتميزون عن الدعاة التقليديين؟
قبل سبعة عشر سنة تقريبا كتب وائل لطفي دراسة بعنوان: “ظاهرة الدعاة الجدد: تحليل اجتماعي” وقد تصدى في الكتاب لدراسة هذه الظاهرة في مصر منذ بداية التسعينات، وفي العموم لا يخرج الدعاة الجدد في المغرب عن التوصيف والمميزات التي ذكرها وائل لطفي في دراسته، إلا في كونهم امتدادا بشكل أو بآخر للتيار السلفي بالمغرب عكس الحالة المصرية.
إذا كان الدعاة الجدد هم ذلك الجيل من الدعاة غير التقليديين، والذين يتميزون بشكل عام بـ:
1. أنهم ليسوا خريجي معاهد دينية جامعية أو تقليدية، 2. لا يلتزمون دوما بزي رسمي، 3. يستعملون معجما شبابيا ومرحا في خطابهم، 4. يركزون على مواضيع العلاقة بين الجنسين، والمشاكل الاجتماعية للأفراد، ونقد الظواهر الغير الأخلاقية في المجتمع، كما أنهم لا يتدخلون في الحديث في الشأن السياسي.
وبالنظر إلى حسن استخدامهم لتقنيات التواصل الجسدي والحضور الإعلامي، أصبح هذا الخطاب جذابا للعديد من الفئات المجتمعية داخل المغرب.
وهكذا أصبح الداعية “نجما” له معجبوه الذين يرغبون بشدة في التقاط الصور معه، أكثر من تقبيل يده أو طلب الدعاء منه، وأصبح المعجبون يتهافتون لحضور جلساته لقضاء وقت ممتع، بدل الاتعاظ أو التعبد، وأصبحت مقاطعه تستعمل للمناوشات الإعلامية والسخرية من بعض الظواهر والفئات.
في المقابل، تمكن هؤلاء الدعاة من جعل الخطاب الديني خطابا مقبولا عند فئات عريضة من المجتمع، وشعبيا إلى حد كبير، فلم يعد الخطاب والتحليل الديني خاصا بأناس معينين، بل خطابا للجميع.
كما ساهم في تعزيز حضور صوت الخطابات الهادفة داخل منصات مواقع التواصل الاجتماعي، على الأقل في نقدها لبعض الرذائل الأخلاقية، والاعتزاز بالقيم الدينية السمحة، خصوصا في حالة الترهل التأطيري الذي تعرفه هذه المنصات، وغزو الأفكار التافهة والهادمة من قبل مجموعة من الصفحات والحسابات ذات التأثير الواسع.
وبسبب جمع هذا الجيل من الدعاة بين سلبيات تمييع الخطاب الدعوي وتقويض رمزية الداعية، وغياب المقصد العملي من الوعظ الديني، وبين إيجابيات دمقرطة الخطاب الديني، وحضور الخطاب الهادف على منصات التواصل الاجتماعي، تتضارب المواقف من هذا النوع من الدعاة بين رافض لهذا الأسلوب الدعوي بالنظر إلى السلبيات المذكورة، أو مؤيد له بالنظر إلى الإيجابيات السالفة الذكر.
فما الموقف السديد تجاه هذا النوع من الخطاب الدعوي الجديد؟
“ثم خسَّت هذه الصناعة [أي الوعظ] فتعرض لها الجهال، فبعُد عَن الحضور عندهم المميزون من الناس، وتعلق بهم العوام والنساء، فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا عَلَى القصص وما يعجب الجهلة، وتنوعت البدع في هذا الفن”
ابن الجوزي
ما أقترحه في هذا المقال أن تقييم هذا النوع من الخطاب يتخذ مسارين:
الأول: مسار التقييم العام
في هذا المسار وبغض النظر عن شخص الداعية فإن هذا النوع من الخطاب الدعوي الجديد، فضلاً عن أنه يحمل معه نفس أعطاب الخطاب الدعوي “الوعظي” القديمة، والتي اشتكى منها قديما العالِم والواعظ الأشهر في تاريخ الإسلام ابن الجوزي الحنبلي (597هـ) في كتابه “تلبيس إبليس”، والتي لا يكاد يخلو منها خطاب دعوي، فإن الجذورَ السلفية لهذا الخطاب الجديد بالمغرب، تجعله يحمل أيضاً آفات هذا التيار، والتي تتجلى في اختزالية التعاطي مع القضايا المجتمعية والفقهية.
يكفي أن أشير إلى مقطع للداعية ياسين العمري، والذي على الرغم من تصريحه مراراً وتكررا بأنه ليس شيخا ولا مفتيا، يجيب فيه عن سؤال متعلق بحكم الاستماع للموسيقى.
فيجيب -ضمن عدد من الأدلة المشيرة للتحريم- قائلا: “بالعقل فقط، إذا جيئ بالمعازف يوم القيامة، أين ستوضع في نظرك؛ في كفة الحسنات أم في كفة السيئات؟! فيجيبه أحد المستمعين: في كفة السيئات. فيقول مؤيدا له: الفطرة نطقت”.
هذا النوع من الاستدلال السطحي والبعيد عن صناعة الحكم الشرعي في الإسلام، يذكرني بقول الفقيه الأندلسي ابن حزم (ت. 456هـ):
“فإن قال قائل: قال الله تعالى {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس: 32) ففي أي ذلك يقع الغناء؟ قيل له: حيث يقع التروح في البساتين وصباغ ألوان الثياب وكل ما هو من اللهو، قال رسول الله: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» فإذا نوى المرء بذلك ترويح نفسه وإجمالها لتقوى على طاعة الله عز وجل فما أتى ضلالاً.”.
وبنفس هذا النمط الاختزالي يمضي ليعالج قضايا فقهية مثل: قضية الاحتفال بالمولد النبوي، واختلاط الذكور والإناث في الفضاء العام..
فإذا انضافَ إلى هذه الأعطاب سلبيات صناعة الدعوة أو تسويق الخطاب الدعوي كما أشار إليه مفصلا باتريك هاني في كتابه “إسلام السوق”، والذي يحوّل الواعظ من “داعية” إلى “نجم”، ومن مؤثر في النفوس رغبة ورهبة إلى صانع ترفيه بمضمون دعوي، فإننا بذلك نكون أمام خطاب يساهم في سلب الخصوصية عن الخطاب الديني، ويجعله خطابا ترفيهيا كسائر الخطابات الأخرى، خصوصا حين تغلب عليه الفكاهة والاستظراف!.
كما أن المبالغة في التعاطي لهذا الخطاب واستهلاكه بشكل كبير، يجعل النفوس تستثقل كل خطاب دعوي متزن، على اعتبار أنه ممل وقديم.
أما بخصوص التحجج باتساع دائرة التأثير، فهو أمر نسبي يختلف بحسب السياقات، وعلى الرغم من ذلك فقد استطاع وعظُ العالمِ المغربي التقليدي أن ينال انتشارا واسعا حتى خارج المغرب، كما في حالةِ الفقيه المغربي سعيد الكملي.
الثاني: مسار التقييم الخاص
وهذا المسار يستدعي تقييم كل داعية جديد بمفرده، بالنظر إلى خصوصيته الفردية، ومقارنته بسياقه، وباقي الدعاة في جيله، وهكذا لن يكون الموقف من الداعية ياسين العمري وأمثاله هو نفس الموقف -من حيث الدرجة- من الداعية رضوان بن عبد السلام وأشباهه.
ختاما، أيا كان الموقف الذي يمكن تبنيه من هؤلاء الدعاة الجدد وخطابهم، فإنّ تقديم خطابهم على أنه الخطاب الدعوي المتزن، يبقى أمراً بعيدا عن الصواب، ولا بديل عن صناعة الداعية أو الواعظ المغربي المتفقه. وبالتالي يبقى تجنب آرائهم الفقهية وتحليلاتهم الاجتماعية -إلا ما كان منقولا منها- أمراً ملحا لتجنب أي كوارث دينية واجتماعية.
كما أنه وبالنظر إلى أن هذا النمط الجديد من الدعوة فردي ويعتمد على المهارات الشخصية بدل التركيز على مضمون دعوي بعينه، يعني أن تلاشيه بخفوت “نجومية” حامليه، يظل أمراً حتميا مع مرور الزمن.
بقي الإشارة إلا أني وإن سرت على نهج عدد من الباحثين في تسميةِ هذه الشخصيات بـ “الدعاة الجدد”، فإني أرى بأننا بصدد التعامل مع نشطاء دينيين أو صناع محتوى ترفيهي بمضمون ديني، وليس مع دعاةٍ ووعاظ دينيين.
المراجع:
- تلبيس إبليس، ابن الجوزي الحنبلي.
- رسالة في الغناء الملهي أمباح هو أم محظور، ابن حزم الأندلسي
- إسلام السوق، باتريك هايني
- ظاهرة الدعاة الجدد: تحليل اجتماعي، وائل لطفي
- اختلاف الإسلاميين، أحمد سالم