صوت الجامعة المغربية
- الإعلانات -

المرأة بين الهوية والنسوية

مريم رضوان - النائب الثاني لرئيس منظمة التجديد الطلابي

“النساء شقائق الرجال في الأحكام”، هذه الصورة الخاصة من أكثر الصور المعبرة عن رؤية الإسلام لمدخل الموضوع الذي سنحاول أن نتطرق إليه من خلال هذا المقال. يُعتبر هذا التوجيه الرباني بمثابة الفيصل المحدد للخطاب الديني تجاه العنصرين الأساسيين، والمسؤولين بشكل مباشر عن بناء الحضارة وتطوير آليات التتبع والمواكبة، والقاضي باعتبارهما مثيلين فيما شرع لهما الشارع، ولذلك جاء الخطاب القرآني في كثير من الآيات بصيغة الجمع المذكر، دون حاجة إلى إظهار العطف إلا ما كان من تخصيص واستثناء قاصد للتحديد والتوكيد.

لقد اختلفت، عبر الزمن، وضعية المرأة منذ أمنا حواء واتخذت أوضاعا متباينة، ساد بعضها الظلم واحتقار الكائن الأضعف (بتعبير مختلف الأطياف) فكان العصر الأخير ما قبل الإسلام المجسد الأمثل لمظاهر ترسيخ العقلية الذكورية، فارغة الأس والبرهان، وكان ذلك زمن وأد الإناث واعتبارهن مدعاة للتطير واسوداد الوجوه، وهيمن على بعضها الآخر عدل ساهمت في إفرازه الفطرة السليمة التي حافظ عليها من حق لهم الثناء الحسن، كمثل قوم عباد الشمس الذين حكَّموا عليهم ملكة سبأ فكانت نعم النموذج في الحكم والعدل والمشورة. لا ننكر بطبيعة الحال أن النماذج من أمثال الوضع الأخير هي الأقل حضورا في التاريخ وذكرا في الواقع وكان هذا سببا آخر مشجعا على التذكير بها.

قد أفتح هنا قوسين أعرج بينهما على فكرة مزعجة كنت قد قرأتها قبل مدة للأستاذة مليكة العاصمي، عبرت عنها في أواخر القرن الماضي في كتابها “المرأة وإشكالية الديمقراطية”، مفادها أن الصراع الأول بين الإنسان، وتقصد به الصراع بين قابيل وهابيل، كان بسبب امرأة، وهي فكرة في أغلب الظن مستوحاة من بعض الإسرائيليات، حالها حال القول بأن أمنا حواء كانت هي سبب خروجهما من الجنة، في إهمال واضح لخطاب المثنى الذي لازم كل آية أنزلت حول الموضوع، وكل هاته الأفكار المنحرفة تجعل المرأة في موقف ضعف ودفاع مفقود الداعي والأسباب..

ثم أنتقل بعجالة إلى بعض المظاهر التي كان فيها الإسلام بوصفه الدين عند الله، معليا لشأن المرأة مكرما لها ومهذبا، وأخص بالذكر هنا قصة امرأة عزيز مصر مع يوسف عليه السلام، والانتقال بها من الوضع الذي برئ فيه النبي بشهادة من أهلها، إلى الوضع الذي شهدت فيه شهادة الحق واعترفت فزاد قدرها وارتفع. وكذلك في كثير من المواقف التي كشفت عنها السيرة وقصص الصحابة، حيث استبدل الدور المركزي للمرأة في ذلك الوقت، وتحول من متاع وإناء لتفريغ الشهوة (في حالة النجاة من الوأد) إلى فاعل في المجتمع وبان لاستقرار الأسرة والدولة بمعية الرجل.

فأخذت النساء تتعلمن مبادئ الدين وكل ما من شأنه النفع والإفادة، ولم يمنعنهن ما تلقينه من أدبيات وأخلاق من السؤال في كل الأمور، بل كان فهمهن الصحيح لمسألة التعلم مرشدا لهن في التلقن حتى قالت عنهن أمنا عائشة رضي الله عنها: “نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين”، وقد كان ذلك الفعل متبادلا ومستمرا ومتواترا، فكانت نساء النبي رضوان الله عليهن، الأوفر فرصة لسماع النبي عليه الصلاة والسلام وسؤاله، وبالتالي فهن اللواتي كن يقمن بإيصال المعلومة في كثير من الأحيان. وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام، ساهمت كل من أمنا سلمة وأمنا عائشة رضي الله عنها في رواية الحديث وتدخلن لحل الخلافات بين الصحابة، وكان ذلك من أسمى تجليات مشاركتهما في أمور الدولة والمجتمع.

توالت السنون بعد السنين، وصارت أخلاقيات الإسلام ومبادئه تتخافت بين المنتسبين إليه من جماعات ومجتمعات، وعوضت باسم التقاليد والعادات بمظاهر لا تشبه الإسلام في شيء، إلا ما حافظت عليه بعض الأسر المتعلمة والمثقفة، وسعت إلى تناقله عبر الأجيال، فكان ما كان، حتى أريد للمرأة أن تكون جاهلة في أوساط متعلمة، وألا تشارك في ريادة الدولة وتقدمها. وكل ذلك تحت يافطة التطبيق الشرعي لمقتضيات الدين في أحكام المرأة، مما دفع بعض الكتاب من مطلع القرن الماضي (تقريبا) إلى دعوة النساء المسلمات إلى التحرر، إلا أن هذا التحرر للأسف شاب في أول ما شابه فهم أعرج، فانتفضت بداية فتيات مصر في ساحة التحرير معلنات بداية حياة جديدة ابتدأت بنزع غطاء الرأس عنه وانتهت بالدفاع عن حق “التعري”، ثم لحقت بهن فيما بعد نساء “فاس” وتونس والبقية، فسقطن في أول فخ تم صناعته لهن بمكر ودهاء، حيث تم توجيههن إلى غير عدوهن. عوض أن يتم دعوتهن إلى إعمال المنطق الديني الأصيل دون استحداث أو تكشف.

وهنا أطرح الأسئلة التالية، أليس من الغريب أن يكون نشوء معظم الحركات التحررية النسائية استجابة لنداء رجل؟! في إهمال تام للمبدأ القائم على أن الحركة النسوية هي وليدة الظلم والهيمنة الذكورية، لنجد أن المصطفين في التاريخ من الداعين والمساندين والمدافعين عنها ليسوا في الحقيقة إلا رجالا من أمثال قاسم أمين وسعد زغلول ومحمد بن الحسن الوزاني وغيرهم! فكيف يحدث أن يكون الاستثناء قاعدة مطردة ولا يعتبرها المعنيون تناقضا؟ ثم إن انتقدت إحدى النساء بندا من بنود الحركة، قوبلت هي بالصد والإكراه، معتبرات بأن أكبر عدو للمرأة هو المرأة! وهل أذابت هذه الحركات النسائية الفوارق الفكرية والثقافية والاجتماعية بين الجنسين؟ ألم تكرس بذلك نخبوية الثقافة النسائية بعد فشلها في الامتداد على أرض الواقع؟ ألم تجني تلك الدعوات المبهرجة على استقرار هذه المرأة ودفعت بها نحو بحور من المسؤوليات الإضافية عوض أن تخفف عنها أعباء العيش المشترك؟ ألم يؤدي التدافع نحو المهام الواحدة إلى خلق أعطاب مستعصية في جسد المنظومة الأسرية؟!

وبعد أن تأسست تلك الجمعيات، ونجحت بعض النماذج السوية، بشكل فردي، في التميز على صعيد معين دون الآخر، استمرت عملية المقارنة، واستمرت عملية الترافعات الكلامية، مما جعل الصراع يحتدم بين الرجال والنساء دون تخصيص للمستوى الاجتماعي، فكانت النخبة تستفيد من جانب التقدير الشكلي وبعض التقديرات الموضوعية بدافع إنصافها، فيما عانت نساء المستوى المتوسط والأضعف من الأمرين بسبب ذنب لم يقترفنه، فلم يطلبن المساواة أساسا كي تنقلب عليهن الآية، ويصبحن محط الهجوم من طرف أزواجهن الذين فقدوا وظائفهم بسبب المنافسة غير المتكافئة. إذا فقد تحرر عمل المرأة في نظر الحركيين، لكن دون أن يتحرر فعليا، ودون أن تتحرر المرأة من قيود الثقافة الذكورية أيضا.

إن المسألة المهمة هنا هي أن المرأة العربية حين طالبت بحقوقها، لجأت إلى الترافع قبل أن تحقق في تاريخ انحراف بنية المجتمع الذي تنتمي إليه، وقبل أن يأخذ الراجحون عقلا من رجال ونساء زمام المبادرة وتصحيح وضع الثقافة بما نص عليه الدين قبل أن يعم الجهل عندما حل النعيم بالأهالي وأطلقوا العنان للشهوات فشيؤوا النساء (صيروهن شيئا كما هو حال معظمهن اليوم في كثير من مناطق العالم العربية والغربية) واستعبدوا الضعفاء. فاتخذ هذا الترافع منحى مختلفا عن المنحى المفترض حال الاستجابة لنداء الهوية السليمة، وعوض أن تساهم الأفكار في تعزيز ثقافة الإسلام، كما دعا إلى ذلك الله ورسوله، تم تسخيرها في مواجهة تعاليمه والضرب بجوهره ومظهره عرض الحائط، وجعلت محط التهكم والاستهزاء.

قدمت الأستاذة هبة رؤوف عزت في إحدى الندوات سنة 2014 توجيها بضرورة استحضار ثلاثة مفاهيم رئيسية في الحديث عن المرأة وهي: “الفطرة” في مقابل الاستهلاك و”التمدن” ثم “العمران”، وذلك قصد الحفاظ على خصوصيتها وعدم تجريدها من الاختلاف المميز لها ولدورها في البناء المجتمعي. فقد خلقت الأنثى مختلفة عن الذكر في جميع الأنواع، وكذلك أدوارهما في الحياة، وإن اختلال تلك الأدوار قد يؤدي بهما إلى بعض ما بتنا نراه اليوم من اختلال لمكونات المجتمع، وعلى رأسها الأسرة.

وعلى سبيل المثال، أضحت امرأة اليوم، المتعلمة والمثقفة، تحاول المزاوجة بين الوظائف التي سعت إلى الجمع بينها بكل نهم، فأصبحت العاملة التي تشتغل صباح مساء خارج البيت، ثم فور دخولها إلى المنزل، تشرع حالا في القيام بواجبات البيت ومراقبة أبنائها والعناية بهم وبزوجها، دون أن تهمل واجبها تجاه والديها من اتصال وتواصل لفظي ومادي إن تطلب الأمر، لتتفرغ فيما تبقى من وقتها الآخر للمشاركة في أنشطتها الاجتماعية والحقوقية وغيرها. وكل ذلك العمل والإرهاق الذي يخلفه يجعل من نجاحها في أداء كل الأدوار أمرا عسير التحقيق، فتضعف مردوديتها في بعض مهامها كنتيجة حتمية لتحملها ما لا تطيقه، وغالبا ما يكون الجزء المضحى به، هو الجانب الأسري، فتستعين على إثر ذلك بآخرين مجسدين في مؤسسات ومربيات وعدة مفاهيم مرافقة لتلك التحولات كالحريات. ويتراجع حضور التربية في شقها المبني على المعية والعاطفة وينتج عنه تشوهات أخلاقية ونفسية وسلوكية عند الطفل الذي يعول عليه في بناء غد أفضل! فكيف نعتبر ذلك تحررا وتقدما في موضوع المرأة؟ بل إني ما رأيت المرأة في حاجة إلى حقوقها أكثر من هذا الوقت قط، كما لم أر الرجل في حاجة إلى عدل مجتمعي كما أراه اليوم!

لقد لعبت النساء، تاريخيا، دورا مركزيا يستعصي على غير العادل الاعتراف به وتقديره، لكن ذلك لم يجعل منهن يوما رجالا، كما لم يجعل من الرجال ضعافا فاقدي الرجولة، فالتكامل الذي يحققه كلامهما هو الذي ينتج أسرة ناجحة كتلك التي قادت تركيا وجنبت دولتي اليمن والمغرب وغيرهما كوارث حقيقية في وقت من الأوقات.

لو افترضنا أن الحركة النسوية هي استجابة لواقع المرأة المتردي الذي تعاني فيه من الظلم والتهميش وتحرم من أبسط حقوقها في الحياة الكريمة والتعلم إلخ. فهل وجود قيادات نسائية هو الكفيل لرفع ذلك وكفه عن الحدوث لبقية نساء المجتمع؟ ألن يجعل ذلك إشكالية المرأة محصورة فيها ومتعلقة بها فقط، هي الضحية والمحامي، في محكمة تقليدية! ألن يكون أولى وأرفع درجة أن نؤسس لوعي ينتج عنه احترام المرأة لذاتها من طرف الجميع، دون حاجة إلى جعلها موضوعا مستثنى؟ وهل نستطيع تأكيد نجاح الحركات الحالية في تحقيق مقصود الحياة والحفاظ على تماسك المجتمع بنبل وقيمة؟

من هنا إذا تبدو الحاجة إلى الحفاظ على خصوصية المرأة المسلمة ملحة أكثر من أي وقت مضى، استحضارا لطبيعة الثقافة الدينية والأخلاقية والإنسانية المتعاقدة معها وكذا الحذر من التماهي مع النموذج الغربي كنتاج من نتائج الانبهار بالغرب وحضارته!

يبدو أنه قد أصبح مستعصيا على المرأة أن تعيش نسويتها وسط هذا العالم المكتظ بالأجناس غير المحددة، تلك التي تبدو إلى حد ما موافقة لظاهر ما هو موجود في الطبيعة، ولكنها تحمل في جوفها مضامين غير مصنفة. فبالتزامن مع مناداة المرأة بتحررها وتنديدها بانتهاك حقوقها، تتم إعادة تشكيل هوية جديدة لها، تكون فيها هي مركز الكون، وتسعى لأن تدور حولها الحياة، تمضي إلى فعل كل شيء دون أن تهتم لما هو دونها، أكان رجلا أو طفلا أو أي كائن آخر.

إن الحرية التي يكفلها الإسلام للمرأة تجعل منها كائنا واعيا لذاتها وقادرا على الترجيح بين الخير والشر في اختياراتها الدنيوية بمعزل عن مغريات الثقافة المتعددة وآراء العامة من غير المعنيين بسعادتها الخالدة، والتي تمتد من تقديرات الدنيا ولا تقف إلا عند بلوغ الشهود. وهذه الحرية المقترنة باستيعاب المسؤولية، والتي جعلها الله قانونا للإنسان على الأرض، هي التي تجعل منها كائنا شقيقا للرجل، لا تفضيل بينهما إلا بناء على مدى توفقهما في ذلك.

تعليقات
تحميل...
%d مدونون معجبون بهذه: