“حينَ تبلد الإحساس…” بقلم مريم رضوان
بقلم: مريم رضوان -عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة مسؤولة قسم التأهيل المركزي
كان ذلك منذ زمن بعيد، وقفت في دائرة مكتظة بالبشر، وقفت بصحبة أخي، وكنت مستمتعة جدا بوجود أطفال كثر رفقة ذويهم، اجتمعوا في حلقة دائرية وقد بدؤوا يرددون جملا ذات لحن، لم أكن بطبيعة الحال أفهم كثيرا ما الذي يدور حوله التجمع، كل ما في الأمر أن ذلك كان يوافق شخصيتي الاجتماعية وهوايتي الغنائية، وقد كنت أضبط الألحان منذ بدأت تكوين الجمل.. قبل أن أبلغ الرابعة من عمري أساسا.. فكنت أنتظر سماع ما يغنونه لترديده معهم، فكنت أباشر في ذلك فور انتهاء الرجل في الوسط من نطقه.. أذكر جيدا أنه لمحدودية رصيدي اللغوي، كنت كثيرا ما أملأ الفراغ بما يوافق اللحن مما جادت عليه فطرتي أنذاك.. ولكنني كنت أصرخ عاليا بحماس الواقفين.. كانت هنالك رايتان، أعرفهما جيدا، إحداهما ترفرف عاليا، والثانية تحت الأقدام.. كل ما كنت أفهمه في ذلك الوقت هو أن الراية الملقاة على الأرض قد قتلت أطفال الراية الشامخة.. كنت أعرف ذلك لأنه في بيتنا صورة لخريطة فلسطين، وألوان علمها لا أنساها.. وأما عن الأخرى فلأنني كنت شاركت في مسابقة للرسم عندما بلغت سنتي الخامسة، وذلك عبر مرحلتين، الأولى شاركت برسم لقبة الصخرة المشرفة، والثانية للسفاح الكبير أريال شارون، تعرفت عليه عندما أخبرونا بأنه المسؤول عن قتل الأطفال في مثل سني، فقط لأنهم من فلسطين.. كانت الرسمة في واقع الأمر لأخي، وقد اتفقنا في ما بعد بوضعها – الصورة- محاذاة سلة مهملات القسم، وكلما مررنا عليه دخولا وخروجا، نظرنا إلى مكانة من رسم فيها.. كان ذلك في السنة الأولى ابتدائي، ولا أستطيع أن أخطئ التاريخ، لأنه مسجل بأحداث ٢٠٠٠ الأليمة..
المهم، لحماسي الشديد في الحلقة، وقد كان يحملني أخي فوق رأسه، طلب منه رجل الوسط أن يقدمني إليه، فحملني هو الآخر فوق كتفيه، وسط الجمهور الكبير، وحملني مسؤولية حمل علم فلسطين مرفرفا وعدم تركه.. بينما راية الأشرار تحترق.. كنت سعيدة جدا، ومستعدة لأن أتحمل ثقلها في سبيل ذلك..
انتهى العرض، وليس هناك من هو في مثل سروري بما فعلته.. عدنا أدراجنا نحو البيت.. ولا أذكر ما حدث بعد ذلك، غير ما استقر في نفسي من شعور بالحب للعَلَم الذي أحييت ذكره ورفعته، وكأنني انتصرت لأطفال فلسطين..
كبِرتُ وكَبُرَت معي محبة فلسطين، والنفور من كل نجمة سداسية توجسا وخيفة.. تجدني أول ما ألاحظه، في زخرفة الأراضي والشبابيك وكل ما ينحث ويرسم، أشكال النجوم، فأفرح إن وجدتها خماسية لأنها ترمز بالنسبة لي لعلم المغرب، وأسعد إن كانت ثمانية لأنها مستوحاة من فن العمارة الإسلامي، وأما إن حملت زوايا ستة فلا أستحب النظر إليها وأتساءل عن سبب وضعهم لها.. فكنت مثلا أكره أحد أنواع مساحيق الغسيل لأن به نجمة سداسية..
وفي علاقة الفن بالوجدان، لطالما كان لوني المفضل هو الأحمر، فعشقت الورود الحمراء والزرابي الحمراء والفساتين الحمراء، وكل ما جمله اللون الأحمر، فقلت ربما هي فطرة، تشترك فيها مشاعر الحب والحياة والحزن.. بتلك الدماء التي تجري في أبداننا والتي تنزف عند موت أحبابنا والتي تنبض حبا لغيرنا.. زينت علما ينبض بالحياة حتى وإن لم يتوقف عن النزيف..
تلك الأغاني، كم بكيت عليها وأنا في ربيعي الثاني عشر.. “لا تحزن معاك الله يا أعظم شعب” بمشاهد الكليب المؤلمة، كنت كلما شهدته على التلفاز أو الحاسوب، انتابني حزن شديد وبكيت باستمرار ودعوت على الظالمين.. لا أنسى مشهد الجبناء وهم يعترضون بالكلاب طريق المسلمات، فيقطعونهن قطعا وهن على قيد الحياة.. ولست أنسى أثر الكهرباء على الأسرى الأخيار، وهم يرتجفون أسى وألما.. لم أكن أمنع نفسي من حضور كل المشاهد، بل كنت أكره كوني عاجزة عن فعل أي شيء لهم، ولم أكن أبخل بالدعاء.. وعند السفر، كان يترجم تأثير ذلك ورغبتي لنصرتهم بأحلام واقعية، كنت أقضي مسافة الطريق الطويلة بأكملها أتخيل نفسي في فلسطين، أقاوم المعتدين، ولأنه حلم يقظة بالطبع، فكنت دائما ما أنهي الحلم باستشهادي وتحرير فلسطين.. كان ذلك يمثل رغباتي الدفينة التي لا أجد لها حيلة في الواقع..
كبرت أكثر، وصرت قادرة على السفر لوحدي، فكنت أعارض أمر أبي إن رفض ذهابي إلى تظاهرات الاحتجاج على عدوان الاحتلال، فلا أرتاح حتى يسمح لي بالذهاب بعد أن يطمئن على الرفقة.. فأقطع الطريق من فاس إلى الرباط أو الدار البيضاء كي لا تفوتني فرصة أضعف الإيمان.. وعندما أقف فيها، أجدني أهتف بأعلى صوتي، لا يهمني فيها شكلي ولا ظن المارة بي.. كل ما يوجهني هو شعلة في قلبي لا يطفئها إلا ما أملك، أدعو وأهتف..
قد كانت مسيرات البيضاء الكبيرة تبعث في النفس الانشراح، مليونية تشرح الصدور، كنتُ أشعر أن القضية حية في نفس الكثير غيري.. كنت أشعر أنها قضية المغاربة بحق..
مرت السنين، واحتفظت بنفس المبدأ، لا أبخل عن فلسطين بأي جهد، ولكن في كل مرة كنت أحضر في هذه السنوات الأخيرة، كنتُ أبكي.. لكن لسبب مختلف. وجدتني أتأمل في ما أردده من شعارات، فأحس بانقباض صدري، وأسأل نفسي: هل حقا أفعل ذلك؟ أنا أقسم بالفداء بدمي فهل أفعل؟ وأمرر نظري فأجد المتظاهرين كل في عالمه الخاص، لم أعد أشعر بروح القضية تحضر المكان، بضع عشرات، أو مئات وفي أحسن الحالات بضعة آلاف، يجتمعون ثم يفترقون، إن سكت صاحب الميكروفون لم يكد يسمع للواقفين شعار واحد كامل الرنين.. ثم ينصرف الجمع في سرور.. بدأت أتساءل عن نفسي، ما الذي حدث؟ هل تبلدت أحاسيسنا بفعل الزمن؟ أم أن الأمر أخطر من ذلك! هل ما عدنا نهتم بأمر فلسطين..
بدأت بتحليل الأمر، وجدت أنه يوم سجلت إحدى الملاحظات، شعرت بالاشمئزاز، وربما ذلك كان سبب التحول.. وجدت أن التطبع مع الواقع في جزء من فلسطين أصبح مفروضا لا يمكن إنكاره، حين تجد أنك في دولة تبعد آلاف الكيلومترات عن ثاني القبلتين تقاطع منتوجات أمريكا، أو تحاول ذلك ما استطعت، وغيرك هناك، ممن أنت تقاطع البضائع ظنا منك أنها تعادل أربع رصاصات لصالح جند الاحتلال، يستهلكها بلا استئذان ولا تأنيب.. تتساءل لماذا؟ ثم حين يأتيك الجواب: لأن ببساطة المعامل التي تصنعها هناك يشتغل فيها الفلسطينيون ويتقاضون من ذلك أجرهم، فكيف يقاطعون رزقهم.. تتجهم وتشعر بالاشمئزاز.. ثم ماذا؟ كيف يعيشون؟ وهل هذا سؤال أمتلك حق الإجابة عليه!
اختلطت علي الأمور، وعكفت إلى ركن أحاول تعديل موقفي وتحديث مفهوم التطبيع الجديد..
بعد مدة، حدث أمر ما يستدعي الوقوف من جديد، وقفت أيضا، وجدت رفقة الخير لا زالت تنكر العدوان جهرا.. وقد قل عدد المتظاهرين.. وجدت نفسي أهتف عاليا كما كنت أفعل دائما، وجدت أخي رغم مرضه حاضرا يصرخ بحرقة “للقدس رايحين شهداء بالملايين” وابنته ذات السنوات الخمس فوق كتفيه تحمل راية فلسطين عاليا، نظرت إليهما وابتسمت، أخذت صورة لهما وتابعنا المسير والتعبير.. لم يتغير في داخلي شيء على الأقل، لا زالت عقيدتي سليمة، ولا زالت فلسطين حلمي الذي لم يكتمل، ولا زال قلبي معلقا بها، تحريرها غايتي بما أوتيتُ من سبيل.. حتى وإن تخلى بعض أهل المكان عن ذلك، فلسطين للمسلمين أجمعين.. ونصرَ الله المستضعفين!
كتبت هذه الأسطر حتى أجعلها شاهدة علي أولا، ولأنبه على أن تبلد الأحاسيس قد يحدث إن لم يستدرك شعوره الإنسان ويوقظ في قلبه الغايات التي حجبها التعود عنه والزمن.. وأخيرا لأشدد على أن الأبناء بنية خصبة لتلقين القيم وزرع أسس الخير. كان لأمي الفضل علي ولأبي كذلك، كما كان لهما على إخوتي، أن علمانا حب الدين والعدل والوطن، والحمد لله رب العالمين..