صوت الجامعة المغربية
- الإعلانات -

“دفاعا عن الأدبيين!” بقلم حمزة ادام

بقلم: حمزة ادام- رئيس منظمة التجديد الطلابي

مع مطلع كل موسم جامعي، يطرح الملتحقون حديثا إلى الجامعة على أنفسهم ذلك السؤال المصيري الذي سترهن إجابته عقودا قادمة من مسارهم الدراسي والمهني : أي تخصص سأختار؟ وأي مجال سأهب له بقية مسيرتي الدراسية والمهنية؟

سؤال ثقيل وصعب، لأن الأمر يتعلق بأحد القرارات المصيرية التي يتخذها الإنسان خلال حياته، ولا شك أن أكبر ما يمكن أن يعين على الاختيار هو أن يضيق الطالب الجديد لائحة التخصصات المتاحة له حتى يستطيع تحديد تخصصه ..

لذلك أريد أن أعتذر إن كنت سأفعل العكس، فالهدف من هذا الحديث هو الدفاع عن تخصصات ربما عمد عدد كبير من الطلبة إلى إلغائها من خياراتهم تماما، وهو أمر ليس راجعا بالضرورة إلى ميول شخصية أو معايير واضحة، بل إلى صورة نمطية رسختها سنوات كثيرة من الظلم والحيف الذي طال هذه التخصصات، وأقصد بالحديث هنا : “الشعب الأدبية” !

تنقسم التخصصات الدراسية في بلدنا عموما إلى ثلاثة أقسام : تخصصات العلوم الحقة باختلاف معاهدها وكلياتها ومؤسساتها، وتخصصات العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، وتخصصات الآداب والعلوم الإنسانية، وقد ساد لعقود عديدة نوع من التراتبية Hierarchy أعطت الأفضلية للتخصصات الأولى ثم الثانية فالثالثة، لاعتبارات مرتبطة أساسا بفرص الشغل المتوفرة حال حصول المتخرج منها على شهادته العلمية، ناهيك عن وجود تصور لدى العديدين مرتبط بتفاوت أهمية هذه التخصصات من حيث فائدتها للمجتمع ودورها في تنميته وتقدمه، ومن هنا بدأت الحكاية!

فتخصصات العلوم الحقة مرادف للاختراعات والاكتشافات العلمية التي ساهمت في نهضة البشرية وجعلت منها ما هي عليه اليوم، وهي التي خرَّجت لنا المهندسين والأطباء وعلماء الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك، وبفضلها أصبح التقدم التكنولوجي ومنجزاته مفخرة الجنس البشري التي جعلته يقتحم عوالم الذرة والمجرة، وينهي آلام المرضى ويحقق الرفاه للمجتمعات ..

وتخصصات العلوم القانونية والاجتماعية والاقتصادية مرادفة لتطور تنظيم الجماعات البشرية والبحث عن السبل الأمثل لتدبيرها على مستوى الدولة والمجتمع، وهي التي أعطتنا القضاة والمحامين وعلماء الاجتماع والقانون الذي يرشدوننا إلى أفضل السبل لجعل حياتنا الاجتماعية أفضل وتدبير شؤوننا السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل أمثل..

أما تخصصات الآداب والعلوم الإنسانية، فهي مرادف للاشتغال بما لا طائل له – هكذا يقولون !-، فهي تخصصات الإطناب والإسهاب وكثرة الكلام، وخريجوها إنما ينتمون إلى “قطاعات غير منتجة” ! فما الذي سيستفيده المجتمع من الأدب والشعر والقصة والرواية ودراسة الإعراب والنحو ؟ الأجدر أن نلتفت إلى ما نشبع به حاجيات الإنسان المادية من اختراعات تكنولوجية وبناء للقناطر والطرق وصناعات حديثة !

هنا تكمن الكارثة : هذه النظرة القاصرة التي تعبر عن جهل مدقع بطبيعة الإنسان واحتياجاته، بل وقصور في فهم شروط التقدم والتنمية التي لا يمكن أن تتحقق دون أن تكون هذه التخصصات الأدبية في قلب المعادلة ..

وإلا فلنطرح السؤال الآتي : كيف كانت ستكون مسيرة البشرية في غياب الشعر والرواية والمسرح واللغة والدين والفلسفة؟ وهل كانت ستقوم للإنسان قائمة لو أن كل إنتاجاته كانت منحصرة في تقنيات الصيد والزراعة والصناعة والبناء والطب وغيرها ؟

هل سمعنا قبل اليوم عن شعب تقدم في مجالات الصناعة والتقنية دون أن يكون له قدم السبق أيضا في ميادين الأدب والفنون؟ هل يقل افتخار فرنسا اليوم برامبو وهوجو وبودلير وكامو عن افتخارهم بباسكال وباستور ولافوازييه ولابلاس؟ أم هل ضربت بريطانيا صفحا عن الفخر بمسرحيات شكسبير وروايات ديكنز في مقابل إعلائها مكانة نيوتن وهوكنغ؟ هل تنكرت أمريكا وروسيا واليابان لأدبائها العظام في مقابل تقديرها الذي قد يصل حد التقديس لرياضييها وفيزيائييها وعلمائها الطبيعين ؟

لقد عانت التخصصات الأدبية لعقود كبيرة من هذه “العنصرية” التي تعكس قصورا في الفهم والتصور، وهو قصور لا شك راجع لأسباب متعددة ليس هذا مجال التفصيل فيها، منها ما هو مرتبط بالتحول الذي طال دور الجامعة من مؤسسة معنية بإنتاج المعرفة وتخريج النخب القائدة للمجتمع إلى ملحقة لسوق الشغل لا يعدو همها تلبية حاجياته بأفواج من العمال والموظفين، ومنها ما هو مرتبط بصورة مغلوطة عن وظيفة العلم الذي تحول من وسيلة لإشباع فضول الإنسان واكتشاف أسرار الطبيعة إلى وسيلة لتحقيق الربح المادي السريع والمكانة الاجتماعية الرفيعة، ومنها ما هو مرتبط بنظرة دونية كرستها سياسات الحكومات المتعاقبة بتهميش هذه التخصصات وتوسيع نطاق مهننة الجامعات، إلى الدرجة التي وصف بها أحد وزراء التعليم العالي السابقين التخصصات الأدبية بأنها ليست سواء محاضن لتفريخ “أفواج من العاطلين” !

لن أكون مبالغا إن قلت أن التخصصات الأدبية على عكس هذه الصورة النمطية تماما، فالأدب والفن هو أرقى ما أنتجه الإنسان، لأنه معني بإشباع حاجات أخرى لا تقل أهمية عن حاجياته المادية والنفسية والاجتماعية ..

دراسة الآداب والفنون هي رحلة إلى عمق الإنسان، هي نافذة تتيح النظر في كوامنه ومكنوناته، يستطيع من خلالها هذا الكائن العجيب أن يعبر عن تناقضاته بلغة غير لغة المنطق الصارمة لأنها تناقضات تفوق في كثير من الأحيان قدرة العقل على التصور والتفكير. الآداب والفنون لغة الروح التي لا تستطيع قواعد اللغة البشرية المحضة أن تعبر عنها، هي تلك المعاني التي يستحيل بأي حال من الأحوال ترجمتها إلى معادلات رياضية صارمة أو قوانين فيزيائية صماء.

التقنية تتقادم لكن الآداب والفنون لا تتقادم : كلما تقادمت التقنية قلت قيمتها، لكن كلما تقادمت الإنتاجات الأدبية زادت قيمتها، لأن الأمر يتعلق بفلسفتين مختلفتين في النظر للوجود والإنسان : فلسفة مبنية على “إيديولوجية التقدم” تعتبر أن الإنسان بدأ ناقصا وأنه في طريقه إلى الكمال عبر التقدم التكنولوجي والعلمي، وفلسفة مبنية على مبدأ “الفطرة” المبني على أن الله استودع الإنسان كل الأسرار اللازمة لأداء دوره ووظيفته، وأن دور الإنسان هو اكتشاف هذه الأسرار الكامنة فيه منذ خلقه، فمسار الإنسانية ليس بضرورة مسار “تقدم مستمر” بل هو مسار “اكتشاف مستمر”. لذلك فإن الآداب والعلوم الإنسانية تحاول اكتشاف هذا الجزء المستتر من الظاهرة الإنسانية، وهو الجزء المتعلق بالطبيعة الثابتة للإنسان، وهي طبيعة لا يطالها التقادم الذي يطال الاكتشافات المادية، وإنما يطال التقادم فهم الإنسان لهذه الطبيعة الكامنة أصلا فيه.

صحيح أن المنطق الذي يحكم الاقتصاد العالمي اليوم – ومعه اقتصادنا الوطني – يعطي الأولوية للتكوينات المهنية والتقنية، وهو أمر لا نملك إلا التعامل معه بمنطق الأمر الواقع، لكن هذا لا ينفي أن خيارات العمل بالنسبة للشعب الأدبية متوفرة للخريجين الذي يستطيعون إثبات كفاءتهم في مجالات تخصصهم، وهو أيضا دور الدولة التي عليها أن تشجع التشغيل في المجالات المرتبطة بالآداب والفنون، لأن المنطق الاقتصادي لا يمكن أن يبرر بأي حال من الأحوال التخلي عن قطاعات حساسة تشكل جزءا لا يتجزأ من مقومات نهوض المجتمع وتقدمه..

الأمر ليس بالضرورة مرتبطا بطبيعة التخصصات وإنما بقصور الاقتصاد الوطني عن توفير مناصب شغل بالنسبة لجميع أنواع التخصصات، فعدد خريجي شعب الآداب والعلوم الإنسانية سنة 2019 مثلا بلغ حوالي 28 ألف خريج، وهو عدد كان من الممكن تحمله في دولة ذات اقتصاد متعاف قادر على توفير مناصب شغل كافية.

حق للمنتمين للشعب الأدبية أن يفتخروا بهذا الانتماء، وعلينا جميعا – معاشر طلبة وخريجي غير هذه المؤسسات – أن ننظر بكل احترام وتقدير للذين اختاروا هذا الاختيار، لأنهم بذلك يحمون المجتمع من السقوط فريسة المنطق الأحادي المادي الصارم، الذي سيحولنا – إن ساد وحده لا قدر الله – إلى كائنات أقرب إلى الجماد منا إلى الإنسان، في زمن علا فيه صوت الجسد على صوت الروح، وصارت الحياة الإنسانية – في نظر البعض – بكل غوامضها وتناقضاتها مجرد معادلات رياضية وقوانين فيزيائية لا مكان فيها لإشباع احتياجات الروح وإطفاء ظمأ الإنسان للأدب والفن والجمال.

تعليقات
تحميل...
%d مدونون معجبون بهذه: