ثقافات الحَجْر: الذعر وسؤال الديمقراطية
المصدر: القدس العربي
بقلم: محمد سامي الكيال- باحث سوري
يمكن اعتبار الذعر الفردي والجماعي، ظاهرة سلوكية أساسية في التاريخ الإنساني، فعلى الرغم من اشتراك البشر مع كثير من الكائنات الأخرى في الجانب الغريزي من هذا الانفعال، إلا أن للذعر البشري جوانب ثقافية وسياسية شديدة التعقيد: يمكن استخدام موجات الهلع الصحي والاجتماعي والأخلاقي، لتغليب سياسات معينة، أو فرض وقائع سلطوية جديدة. وقد ظهر هذا واضحاً في ممارسات الأنظمة الشمولية الأكثر قسوة، بما فيها النازية، التي قامت باستغلال هذه الموجات، أو ساهمت بتصاعدها.
تصبح المسألة أكثر تعقيداً في عصر تقوم فيه تقنيات السلطة الحديثة على السياسات الحيوية Biopolitik، أي الممارسات التي تستهدف عموم السكان، في ما يتعلق بإنتاج وإعادة إنتاج الحياة: الصحة، الولادات والوفيات، مستوى الحياة، الجنسانية، إلخ. ولذلك فإن الذعر بخصوص الأوبئة والفضائح الأخلاقية وأنماط التواصل الاجتماعي يصبح مجالاً خصباً لعمل السلطة الحيوية. بهذا المعنى فلا يمكن فصل الصحي عن السياسي في ما يتعلق بجائحة انتشار فيروس «كورونا». الأنظمة الصحية، التي تتعامل مع الوباء، هي أيضاً جزء أساسي من البنية السياسية والأيديولوجية للدولة، وليست مجرد «خدمات» طبية. يطرح انفعال الذعر، بما يترافق معه من تعذّر النقاش والتفكير العقلاني، أسئلة صعبة على الديمقــــراطية نفسها.
في التنظير الأفضل للديمقراطية الدستورية، من المفترض أن يستطيع البشر، بلغتهم العادية وقدرتهم على التواصل، تداول الحجج والأفكار في ما يتعلق بشؤونهم الحياتية الأساسية، عبر النقاش في حيز عام حرّ، ما يسمح بعقلنة القرارات العامة ومنع تغوّل السلطة، التي تملك قدرات هائلة على التحكم بحياة البشر وحرياتهم. مع موجات الهلع لا مكان للحجج الجيدة، بل يمكن تمرير أي إجراء غير عقلاني أو غير عادل، بحجة تجنب الهول المقبل، وتصبح الديمقراطية ترفاً.
بالنسبة لمنظرين آخرين فإن مؤسسات الحيز العام غير محايدة أو طبيعية، بل قائمة على نمط معين من الهيمنة الطبقية والأيديولوجية، التي تحدد ما هو «بديهي» والإطار العام للجدل الاجتماعي، ولكنَّ الســـياسة القائمة على صراع الهيمنة بين القوى الاجتماعية تتطلب أيضاً درجةً كبيرة مـــن القـــدرة على التواصل والجدل الحر، وإلا تحول النزاع بين «الخصوم» السياســيين إلى حرب بين «أعداء» يسعون لإلغاء بعضهم بعضا. فهل يمكن للديمقراطية أن تتعامل مع الكوارث الكبرى، التي ربما تصبح أكثر تواتراً في عصرنا؟ أم على المجتمعات الاقتناع بتفويض مزيد من الصلاحيات للسلطة وسياساتها الحيوية؟
الديمقراطية ليست السؤال!
بالنسبة لبروس أيلوارد، كبير مستشاري رئيس منظمة الصحة العالمية، فإن ردود فعل الدول، في ما يتعلق بمواجهة الأوبئة، لا يتم قياسها فقط بكونها ديمقراطية أو سلطوية، وما يجب على العالم تعلمه من الصين، أن الأمر الرئيسي هو السرعة في اتخاذ الإجراءات المناسبة وتنفيذها. أيلوارد ليس سياسياً بل هو مسؤول تكنوقراطي، إلا أن تصريحاته تحمل أبعاداً سياسية كبيرة. وتعيد طرح الأسئلة عن مخاطر استبدال السياسة بالتحكم البيروقراطي- التكنوقراطي. إذا اقتنعنا بأن الديمقراطية ليست السؤال المهم في ما يتعلق بمواجهة الوباء، فسنفتح الباب لإجراءات سلطوية شديدة القسوة، بدعوى السلامة العامة، وسيُعتبر البشر حينها غير مؤهلين لإدارة شؤونهم الأساسية، لأنهم لا يملكون معرفة التكنوقراطيين، ومن ورائهم مسؤولو السلطة التنفيذية، الذين يجب أن يتمتعوا بالسرعة والحزم لتنفيذ توصيات الخبراء.
هذا النمط من السلطوية، التي تحمي البشر من أنفسهم، تقلص الأفراد إلى وضعية «الحياة العارية»، حسب مصطلحات المفكر الإيطالي جورجيو أغامبين، أي حياة بيولوجية مستباحة، تستثنيها السلطة الحيوية من الضمانات القانونية والسياسية، وتحرمها من وضعية «الحياة المؤهلة»، المرتبطة بالحقوق والتمثيل السياسي. تصبح السيادة هنا أكثر أهمية من القانون، ولا يبقى أي مانع لتغوّل الأجهزة السلطوية. وإذا كان أغامبين يرى أن من خصائص السلطة السيادية، استبعاد أقليات معينة من وضعية «الحياة المؤهلة»، فإن التحكم البيروقراطي- التكنوقراطي في عصر الأزمات قد يهدد بتقليص حيز تلك الحياة إلى أقصى درجة، فيُستبعد أغلبية السكان من الحماية القانونية. المسألة لا تتعلق فقط بحدث باستثنائية تفشي فيروس «كورونا»، يمكننا تخيل مدّ المنطق السيادي هذا إلى مجالات حياتية أخرى: قضايا البيئة والاقتصاد واللجوء والأخلاق. فلكلّ من هذه القضايا خبراؤها الذين يدعون امتلاك معرفة أشمل من بقية المجتمع.
لم تكن الإجراءات الأكثر قمعية في التاريخ بعيدة عن العقلنة التكنوقراطية والبيروقراطية، وهذا ما دفع مفكري مدرسة فرانكفورت لانتقاد «العقلانية الأداتية»، التي أدت لأحداث شديدة التوحش، مثل الهولوكوست. الإعجاب، الخفي أو المعلن، بالأسلوب الصيني في مواجهة الوباء، بما رافقه من انتهاك لحقوق المواطنين الأساسية، المتدنية أصلاً في البلاد، قد يهدد بتغليب واحدة من أكثر أشكال «الأداتية» قسوة على صعيد عالمي: الدولة «آلة حرب»، يمكنها أن تحشد مواطنيها، بوصفهم موارد يمكن تطويعها ومعالجتها، لتحقيق الأهداف الكبرى. وبما أن الديمقراطية، حسب هذا المنظور، أسلوب مائع وغير فعال، فلا يمكن أن يوجد أي حيز لتخفيف حدة تسلّط آلة الحرب هذه. إلا أن الأسلوب الصيني نفسه يطرح أسئلة عديدة: ما هي ضمانة أن يتخذ المسؤولون في الأجهزة السيادية القرارات الصحيحة، ما داموا معفيين من أي آلية اجتماعية للرقابة والمحاسبة؟ وهل معرفة البيروقراطين والتكنوقراطيين مطابقة لوقائع مطلقة الصحة، ما يجعلهم فوق المجتمع؟ ثم هل كان تصدي الصين للأزمة مثالاً يحتذى حقاً؟
المثال الصيني
يرى عدد لا بأس به من المختصين أن الصين تصرّفت بحسم في مواجهة «كورونا»، لدرجة أن الوباء بدأ بالانحسار في البلاد. وعلى الرغم من أن هذا الرأي لا يخلو من الصحة، إلا أنه يغفل مسؤولية السلطات الصينية عن تفشي «كورونا» من الأصل. تجاهل الحكومة للتحذيرات عن انتشار الوباء، وقمعها لمن تحدثوا عنه في البدايات، ساهم في عدم عزل الفيروس في مرحلة مبكرة، الأمر الذي كان من شأنه أن يقلل من انتشاره العالمي الواسع. يدفع العالم كله إذن ثمن غياب الديمقراطية في الصين، تماماً كما استفاد في ما سبق من تحويلها لـ»مصنع العالم»، الغني بالعمالة الرخيصة محدودة الحقوق. وهذا لا يجعل من سؤال الديمقراطية وحسب أساسياً في ما يتعلق بانتشار «كورونا»، بل كذلك السؤال حول المنظومة العالمية نفسها، التي انبنت في جانب كبير منها على استغلال العمل في بلدان لا تتمتع بالضمانات الديمقراطية وحقوق التنظيم النقابي الحر. من هذه البلدان يمكن أن تظهر كوارث عالمية عديدة، ليس فقط الأوبئة والتلوث والهجرة «غير الشرعية»، بل أيضاً الفقر والانهيار الاجتماعي وغياب الحريات، وهي ظواهر لن تكون الديمقراطيات الراسخة في الدول المتقدمة بمنأى عن نتائجها. وإذا كان أغامبين قد تحدث عن أهمية «الحياة العارية» في السيادة الحديثة، فربما يمكننا أيضاً أن نفكر بدور «العمل العاري»، والسلطات قمعية التي تؤمنه، في اختلال المنظومة العالمية.
ما بعد الوباء
لا يمكن التقليل من خطورة وباء عالمي أو المطالبة بالتهاون في إجراءات التصدي له، ولكنه، مثل أي أزمة عالمية كبرى، لا يفترض أسلوباً حتمياً واحداً في مواجهته. قد يؤدي «كورونا» إلى تقليص الحريات وتعزيز التحكم التكنوقراطي، وقد تتحمل الفئات الأفقر العبء الأكبر من مآسيه، تماماً كما حدث أثناء الأزمة المالية العالمية عام 2008، عندما صيغت «خطط الإنقاذ» لمساندة المؤسسات المالية الكبرى، إلا أن هذا المصير قد لا يكون حتمياً، وهنا يبرز من جديد سؤال الديمقراطية.
سيعيق الخوف من انتشار الوباء تجمع البشر في الساحات العامة للمطالبة بالتغيير، إلا أن استعادة المساحة العامة، والحق في تنظيمها ديمقراطياً، يبقى تحدياً أساسياً، بالتحديد في زمن الأزمات الكبرى، لأن ذلك يرتبط بأكثر الأسئلة حيوية: من سيدفع ثمن مواجهة الوباء؟ ماذا عن أحوال البشر المعيشية وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية؟ كيف سيعاد توزيع الثروة، بعد الخسائر الحتمية التي ستؤدي إليها الأزمة؟ كيف سننظم الفضاء المديني بطريقة تضمن السلامة العامة وحقوق البشر في الآن ذاته؟
من حسنات الحداثة، رغم كل النقد الموجه لها، أن زمن الأوبئة القروسطية قد ولّى بدون رجعة، لم نعد في عصر الطاعون أو «الموت الأسود»، الذي يمكن أن يفني نسباً هائلة من السكان، وسيتوصل العلم إلى لقاحات وأدوية تخفف الخسائر في الأرواح. ربما يكون الأجدى سياسياً التفكير بالمخاطر والإمكانيات التي تتيحها الحداثة: هل يجب الاستسلام للانفعالات السلبية التي تؤسس لأشكال أكثر قسوة من السلطوية؟ أم السعي لإحداث تغيير يعزز الديمقراطية، وهيمنة البشر، خاصة الطبقات الأدنى، على شؤونهم الحياتية؟
يواجه كثير من البشر الأزمة الحالية بانفعلات فرحة، مشاهد الرقص والغناء من إيران وإيطاليا قد تكون مجرد مواد معدّة للاستهلاك الإعلامي، وقد تكون منطلقاً، رغم بشاعة الظروف، لاستعادة التواصل والتضامن، وهما من أهم أسس الديمقراطية.