صوت الجامعة المغربية
- الإعلانات -

“ضريبة العولمة في زمن التردي السياسي” بقلم مريم رضوان

مريم رضوان- عضو اللجنة التنفيذية، مسؤولة قسم التأهيل 

قضينا أوقاتا جميلة نقرأ عن قصص الأنبياء وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتاريخ الصحابة، أوقات جربنا فيها المعنى القاصد لمتعة استحضار الحقيقة في الخيال، فكنا نجلس ونتأمل ونتدبر ونقارن ونستفهم ونتساءل ونفرح ونحزن ونضحك ونبكي بين ظهراني الكتب، وكل ذلك في حوار صادق مع أنفسنا التواقة للتشبع بفضائل القيم والارتواء من معين محبة الحق والإخلاص وحق المحبة والإحسان.

ولما كان أن رغبنا في النزول من وحي السماء إلى أرض الفضيلة والخطيئة، أول ما أردنا امتلاكه نموذج حقيقي لا نضطر إلى إعمال الخيال لرؤية محاسن خصاله، شكل بشري بذات خصائصنا نستلهم منه عامل القدرة وإمكانية الحدوث بعد كل من مضى وقضى. فكان لكل منا نموذجه الخاص الذي يرى فيه بعضا مما يريد أن يصير عليه، تلفه هالة من الحسن والوقار، لم نستبعد في البداية كونه إنسانا يشترك معنا في إمكانية الضعف والخطأ، إلا أننا لم نرغب في التركيز على تلك النقطة تشجيعا لأنفسنا على تغليفه بقالب النموذج القدوة.

وبعد أول هفوة، أكانتعلنية في الأصل أم سرية وتم تسريبها، يسقط الإنسان في أعيننا ويسقط معه النموذج وبالتبع جملة الأفكار المصاحبة له في أنفسنا. ويصير الفشل من نصيب الفهم والتنزيل، وتقاسي معه الأمرين قدرتنا على الرجوع إلى حلاوة نقطة البداية، قبل أن يتم تلويث الحقيقة المُتخيلة وتصييرها إلى خيال زائف.

ما ذنبنا نحن -الذين عاشوا طفولة مفعمة بالأمل في تنزيل هذا الدين السمح ونشر قيمه حالا بنا- في ما يجري من استهداف مباشر للطعن في مصداقية المؤمنين بمكارم القيم، بدوافع سياسية بئيسة؟ ما ذنبنا إن كنا قد ولدنا في زمن انتهكت فيه خصوصيات الأفراد وصارت مواضيع تشاع حديثا في المجتمع؟ ما ذنبنا إن لم نكن قد اخترنا أن نعيش في زمن التكنولوجيا السائلة التي ساهمت بجميع الأشكال المباشرة وغير المباشرةفي الفتك بأعراض الناس ونشر سرائرهم ؟وما ذنبنا إن كان لنا حلم أكبر من أن ينوب عنا لتمثيله شخص واحد، فيسلب معه حقنا في الحلم إن سُلب؟

من الجيد أن يتوقف الإنسان في مثل هذه المواقف مع نفسه وقوف فضولي مؤدلج، لا يتوانى عن طرح الأسئلة المتعلقة بالحدث ثم لا يُلحق السبب إلا بالمسبب نفسه، فلا يظلم الثوابت بحجة أن معتنقها فشل في تمثلها ولا يضع العوامل كلها في سلة واحدة.

إن أولى القيم الأساسية التي ربانا عليها الله بوحي القرآن، قيمة حسن الإدراك، والتي تعني أن الخلق مدرك لضعفه ونقصه وبعده عن كمال ما يرجوه، وأنه ليس من الضروري أن يتصف بالأمر في إطلاقه ويظل عليه متزنا في جزئياته، لأن ذلك مخالف لطبيعته البشرية الخطاءة. يقول عزوجل في سورة البقرة الآيات 30-37 :

“وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (36) فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)”

ولا يعني استحضار الخطأ الاستسلام والخضوع للهوى، بل يعني أنه على الإنسان تذكير نفسه بالشر والحذر من الوقوع فيه، وعدم استصغار الاحتمال والاستخفاف بالوهن الذي قد يصيب النفس في لحظة حماس زائد أو قنوط جائف.

وأما عن الناظر الذي تم عليه فعل الإحباط فعليه العمل على توجيه ثبوته صوب الثابت، وتعديل المتحرك وفق ما يتحرك ويتغير، إلا أن هذا الأمر، على ما يبدو من بساطة ليس يسير التحقيق، إذ أن ذلك النموذج الذي ابتدأت أول المقال بوصفه جزء من نفس الإنسان، لا يستطيع العيش من دونه، وبالرغم من إدراجي للقيم المثلى في تركيبته إلا أنه ليس بالضرورة نفس الشكل الذي يرتسم في مخيلة الجميع، فتلك القيم العليا أيضا عامل متغير بتغير الخلفية المرجعية التي ينتمي إليها واضعها، وإنما كان تخصيص التوافق بين محدداتها وجعل النص الديني الإسلامي منطلقا، كون هذا الأخير المرجع الذي يمثلنا وما نظنه المسير لأنماط تفكيرنا وحيثياتها.

المستخلص من القول أننا بوصفنا شباب القرن الحادي والعشرين، قدر لنا أن نحمل هما مزدوجا، هم إرساء القيم والحفاظ على ذاتيتنا المسلمة وهم التصدي لمحاولات التشويش عليهما بالوسائل التي أصبحت جزء لا يتجزأ منا، مقتنعين بذلك بضرورة مواكبة متطلبات العصر ومؤدين ثمن الإيمانبرساليتنا باهضا. فالثبات، يسأله الإنسان ربه، ويعمل له، ولا يألو جهدا في استحضار واجبه تجاه الناظر القاصر ثم التركيز على أن الواقعية في القرآن هي الطريق والبرهان على أن القيام بعد السقوط والنصرة بعد الهزيمة والمغفرة بعد التوبة كلها سنن جعلها الله لهذا الإنسان، مقومة سلوكه ومتفهمة عيوبه، لا ينبغي له الميل كل الميل، ولا تنبغي له العصمة، وإنما وعي دائم الاقتران بالرجاء.

تعليقات
تحميل...
%d مدونون معجبون بهذه: