مسيرة خضراء من الوطن إلى الوطن
أحمد الحبشي - عضو المكتب الاداري لمنتدى الباحثين الشباب
ذكريات الوطن والشعب مناسبة لوصل الماضي بالحاضر، يسأل الثاني فيها الأول عما وقع، فيما يسأل الأول الثاني إلى أين سارت الأمور؟
منذ 47 سنة، كلمّا حلّ السادس من شهر نونبر، إلا وتذكّر المغاربة لحظة من اللحظات المجيدة في تاريخهم، لذلك نستغلّ هذه المناسبة لنتساءل عن السياق التاريخي الذي احتضن هذا الحدث المؤثّر في تاريخ المغرب المعاصر؟ وكيف جرت تفاصيل هذا الحدث؟ وما امتدادات هذا الحدث في مستقبل القضية الوطنيّة؟
مبكرا نشأ وعي المغاربة بانتمائهم لمجال محدّد يبدأ شمالا من سواحل المتوسط ويمتدّ جنوبا إلى أعماق الصحراء، وكان ذلك بشكل متدرّج، ونتيجة أحداث متقطّعة من التاريخ (كما فصّل ذلك عبد الله العروي في كتابه عن أصول الوطنية المغربية). فما كان يُنتظر من هذا الشعب أن يتخلّى عن وطنه رغم التحديّات التي واجهها خلال القرن 19م، وحتى عندما تعرّض للاستعمار، كافح من أجل تحرير هذا الوطن بوسائل مختلفة، وذخيرته الدائمة هي شعوره بالانتماء إلى هذه الأرض التي يستمدّ الحريّة منها.
الحصول على الاستقلال سنة 1956، لم يحقق رغبة المغاربة في استعادة كامل المجال الذي ارتبطوا به تاريخيا، بل جاء ذلك تدريجيا (استرجاع طنجة 1957، وطرفاية 1958، وسيدي إيفني 1969)، مع ذلك بقيت الأقاليم الجنوبية لفترة خاضعة للاستعمار الإسباني (الساقية الحمراء ووادي الذهب).
بعد أن غربت شمس الظاهرة الاستعمارية عن سماء المغرب، وجد المغاربة أنفسهم أمام إشكال كبير، وهو تحديد المجال المغربي بدقّة، أي المناطق التي تدخل تحت سلطة المخزن، والتي ارتبط سكّانها فيما بينهم ليشكّلوا الأمة المغربية. فكان من الطبيعي أن يطالب المغاربة باسترجاع المناطق الصحراوية الجنوبية، وهو ما تمّ بالفعل عن طريق الديبلوماسية، حيث تقدّم المغرب بطلب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لعرض قضية الصحراء (17 شتنبر 1974)، وصوّتت الجمعية على القرار بعد ذلك، يوم 13 دجنبر من نفس السنة (القرار 3292)، فكان للمغرب ما يريد حينما أقرّت محكمة العدل الدولية الروابط التاريخية بين سكان هذه المناطق وسلطان المغرب (16 أكتوبر 1975).
قرار مثل هذا يكون مِحكا للدهاء السياسي، فإما أن يُستثمر بطريقة مثلى فتستفيد منه الدولة، وإما يُقَابَلُ بالتردد والتماطل الذي يفوّت الفرص. أحسن الملك الحسن الثاني انتهاز هذا القرار بالدعوة إلى مسيرة شعبية سلمية نحو الأقاليم الجنوبية، فسخّرت الدولة كلّ أجهزتها لتنظيم هذه الرحلة، أما شعبيا فإن الاستجابة إلى هذه الدعوة كانت استثنائية.
رغم المشاكل الداخلية التي كان يعرفها المغرب منذ سنة 1965، بعد فرض حالة الاستثناء، وما مرّ منه المغرب من هزّات سياسية عنيفة بداية السبعينيات، نتيجة تعثّر الاصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، إلاّ أن القوى السياسية الداخلية إلى جانب مختلف الفئات الشعبية انخرطت بدون شرط في هذه الملحمة الوطنية، وتناست كلّ الخلافات الداخلية، إذ لا حقوق ولا تنمية بلا وطن، فالحق في وطن حرّ مستقلّ هو أب الحقوق.
هكذا انطلقت الحافلات والقطارات من مختلف ربوع المملكة متجهة صوب مدينة مراكش، ثم انتقلوا على متن شاحنات إلى منطقة طرفاية، نساء ورجالا، متسلحين بالقرآن والأعلام، هنالك التقت تلك الجموع الغفيرة (350 ألف شخص) التي اصطحبت فرقا فلكلورية تعبّر عن التعدد الثقافي المغربي، مؤكدين على أن قوة هذه الأمة المغربية في تنوّعها، ثم إذا رُفع الأذان اصطفّت الصفوف كالجسد الواحد، الجبلي إلى جانبي الريفي، والأمازيغي إلى جانبي العربي، يشدّ بعضهم بعضا.
ازداد أبطال هذا الحدث حماسا بعد خطاب للحسن الثاني التاريخي، الذي أكدّ فيه على عزم المغاربة استرجاع أراضيهم من الاحتلال الإسباني، فقال بلغة التحدي: “غدا إن شاء الله سنخترق الحدود“، فانطلقت المسيرة الخضراء يوم 6 نونبر 1975، فأزال أبطال الملحمة بضعة أسلاك شائكة كانت تمزّق جسد الوطن، فما كان أمام إسبانيا إلا التراجع عن تمسّكها بقرار الاحتلال، وبدأ المغرب عملية استعادة الساقية الحمراء مباشرة بعد اتفاقية مدريد الثلاثية بين إسبانيا والمغرب وموريتانيا (14 نونبر 1975)، ثم تبعتها منطقة وادي الذهب سنة 1979.
أثبت حدث المسيرة الخضراء أن الأساس الذي تعتمد عليه قضية الصحراء المغربية هو الشعب المغربي، لأنه مؤمن بوحدويّته التي تحقّق التكامل، ومقتنع بأنّ التعصّب العرقي والمناطقي غير كاف لبناء دولة قوية، في عالم أمسى فيه التنافس السياسي والاقتصادي أحوج إلى التكتل المجالي والقوة الديموغرافية من أجل إحداث التنمية، ثم تأتي الديموقراطية لتمثّل المكون السحري الذي يعطي الفاعلية للشروط السابقة.
إن التحدي الراهن للقضية الوطنية هو تعزيز الديموقراطية الداخلية، وتحقيق التنمية، فالديموقراطية تضمن للجميع حق المشاركة في التدبير، وتفتح الباب أمام إقامة دولة الحق والقانون التي تحمي المواطنين، أما التنمية فهي الكفيلة بخلق ظروف حياة كريمة قوامها وجود فرص الشغل وتوفّر الخدمات الاجتماعية الأساس. تجاوز هذا التحدي يقطع كل الطرق أمام خصوم الوحدة الوطنية، ويزيد الشعب المغربي تشبثّا بقضيّته.