بقلم: فاطمة العابد- طالبة بشعبة القانون بمدينة أكادير
أحكم إغلاق النوافذ والأبواب.. عملية تعقيم شاملة لأزقة الحي. الخوف يدب في النفوس ..غريزة البقاء تأسر حرية التنقل بين الجدران الأربعة للمنازل ..عدو خفي يتربص في الخارج.. خطأ واحد من الفريسة وينقض عليها .. صار يتبع التعليمات بحذافيرها..قادما أو عائد من العمل..يتطلع إلى لقاء أهله وعائلته .. الشوق لهم والخوف عليهم..يجعله غارق في وحدة مطلقة في شقته..لم يعد هناك شيء يعيش لأجله..كان يزورهم كل نهاية الأسبوع..يطمئن ويجدد روحه للعمل..مضى شهر بدونهم بلا معنى.. يسومه الخوف والحذر..من استنشاق الهواء ..لمس أي شيء ..التباعد بين الناس.. الكمامات..كل هذا يزيد من وحشته..ويعمقها.. دقت الساعة السادسة والنصف مساءا..غادر المكتب باتجاه شقته. تقع على بعد بنايتين ..كان الشارع مهجور. أدرك التاجر الأخير قبل أن يغلق المحل.. تبضع بعض الحاجيات .. وخرج ..نظر يمنة ويسرة فقطع الطريق إلى العمارة التي يسكن فيها ..رن صوت جهاز الإنذار في أذنيه.كانت السلطات قد شرعت في عملية مراقبة خلو الشوارع والأزقة.. أخد المفتاح من فوق الإطار الحديدي للباب في الأعلى.. كان سكان العمارة قد اتفقوا على إيداعه في هذا المكان معقما..بعد فتح الباب تفاديا لانتقال العدوى.. بتوجيهات من ممرضة فاتنة تقطن في شقة في أعلى البناية .أثارت القطط المجتمعة على بعد أربع خطوات، في زقاق ضيق يفصل بين العمارة وصالة الرياضة، فضوله. سار باتجاهها .فجأة.. تبين شبح امرأة في ظلام الزقاق ..تناولها قطع اللحم من كيس البلاستيك .. تمتم تحية السلام بين شفتيه .تقدم الشبح بعض الخطوات إلى رأس الزقاق ..كانت امرأة متوسطة القامة ..شابة في العشرون من عمرها..ترتدي كمامة تغطي نصف وجهها وجلباب أبيض طويل..تكاد تقع على الأرض بسببه..اقترب منها.ثم قال:ينبغي ألا تتواجدي هنا ..في هذه الساعة.. دوريات الأمن تجوب الشوارع.. انتظر أن تجيب.. جلست .. أطعمت القطط المزيد من اللحم..ساءه هذا التجاهل لتحيته السابقة وسؤاله.لعلها لم تسمع .. جلس قربها..تتوسطهما أربع قطط .. كان يعلم أنها ليست متشردة..مظهرها بعيد عن ذلك.. رفعت عيناها إليه ..عيونها عسليتين تقطر الدمع منهما .. راحت تمسحها بسرعة.. ظلت شاردة الذهن لثواني ثم انطلقت تتحدث ..صوتها خافت هادئ ..بالكاد تسمع كلماتها..هل تعلم..أن هذه القطط بلا مأوى ..هل تعرف..لا أظن.. الموظفون لا يعرفون هذه الأشياء.. لست مخطئة..أنت موظف.. أومأ برأسه يوافقها..ساد صمت لدقائق..حدث نفسه..صوتها ..هذه العينين..كأنهما مألوفان.. شعور غريب..يحسه أول مرة.. شيء يجعله يستمع بأعماقه وكيانه كله.صوتها يبعث دفء داخليا في نفسه.. ثم عادت الفتاة تسترسل كلامها .. لعلك كنت عائدا من عملك …ثم لمحتها..أليس كذلك؟..أنا أعرف أن جائحة كورونا تنتشر قرابة شهر.. في البلاد..أنا أكثر من يعرف هذا ..لذلك أتيت إلى هنا .. أريد البقاء..بجانب هذه القطط ..إنهم صغار جدا .. هل تعلم أن هذا الفيروس لا يساوي شيئا أمام ذلك اللعين.. أقصد الشخص الذي تخلى عنهما هنا.. أتعرف لماذا.. لأن كورونا يهاجم الجهاز التنفسي أما أمثال هؤلاء فيهاجمون الإنسانية..وفي هذا الظرف!.. ظلت هذه القطط الأليفة تنتظر صاحبها.. في هذه النقطة..بالضبط.. لا تبرح مكانها.. منذ أسبوع..بلا أكل وشراب.. إنها لا تفهم عن الخيانة والتخلي شيئا.. إنها وفية فقط.. لم تتعلم حياة الشوارع بعد..لذلك خفت عليها من الموت..لابد أنها كانت تعيش في منزل كبير..في نعيم ورفاهية..لما ظهر الوباء..رميت خارجا.هذا ما يحدث في الأوقات العصيبة..أنت.لابد أنك تفهم.. ذبت حركة مفاجئة .. انتفضت واقفة.. أفزعت القطط فتجمعت كالكرة ثم تدحرجت إلى داخل الزقاق .. ملأت الدموع عيناها..كانت لحظة غروب الشمس..وقفت حافلة أمام باب العمارة.. نزل السائق وبعض الرجال ..تراجعت إلى الزقاق ونزعت عنها الجلباب.. فتبدت في لباس ممرضة..كان مندهش ..التفت إليها..تمتمت قبل أن يسأل.. نعم ممرضة .. تسكن في نفس العمارة.. تلقي التحية كل صباح ..في السلم ..هل تتذكرني..تابعت تقول ..ليس لدي وقت ..أرجو أن تعطيني وعد حق أن تواصل الاعتناء بهذه القطط.. حتى ينحسر هذا الوباء..إلى أن تعود الحياة إلى طبيعتها..لست أؤمن أحد عليها غيرك حتى أعود ..إن عدت ..وقعت كلماتها الأخيرة ثقيلة..سرت قشعريرة باردة في جسده.. تابعت السير في اتجاه الحافلة.. عائدة إلى الميدان.. كجندي باسل.. عندما دخلت إلى الحافلة..ظلت تنظر إليه..لعلها تنتظر كلمته الأخيرة..كان يحس في هذه اللحظات إنما ساقه القدر إلى هذا المكان ..ليتعارفا ويتواد عان..لم يجرؤ يوما أن يحدثها ..في السلم أوفي باب العمارة..كانت فتاة جميلة لكن عيناها تحمل طابعا قاسيا.. لطالما رغب أن يتحدث معها..خاف من فكرة الرفض.. انطلقت الحافلة.. أسرع يركض نحوها..توقفت ..أعطاها عهدا..اعترف بمشاعره لها..لم تزد أن ابتسمت وذرفت الدموع..ومضت الحافلة ..عاد أدراجه إلى القطط..انتشلها من على الأرض ..أطعمها ونظفها في شقته..تأملها كثيرا..أصبحت لديه مهمة..مشاعر جديدة تملأ كيانه.. ووحدته تبددت .. هي تقاتل في الميدان وفي المعسكر..ضد عدوين لا يمكن رؤيتهما بالعين المجردة..في كل دقيقة وثانية..قد تصاب في أي لحظة..من يدري.. من أي جهة.. كورونا أم إنسان بلا إنسانية.. فقط لتعود..عاد يؤكد في نفسه يجب أن تعود.. سيساندها ..سيحافظ على العهد.. رفع دعواته المشحونة بحب عظيم لعاشق لم يكتب له القدر أن يجتمع بمعشوق .. منزلته بين الملاك والإنسان..اجتمع به بعض اللحظات فقط..كرمه بها القدر..لعل دعوته تزلزل السماء وتستجيب ..أغلق الأبواب والنوافذ. وعاد ينشد النوم أن يزوره الليلة…