بقلم: خديجة الصبار- طالبة بالمعهد العالي لمهن التمريض وتقنيات الصحة بطنجة
في البداية أبَيتُ إلا أن أعزي أهالي شهداء كوفيد 19 في مُصابهم الجَلَلُ ، سائلة الله أن يدخلهم فسيح جنانه ويرزق ذوِيهم الصبر والسلوان .وأبيت إلا أن أقدم تمنياتي ودعائي الخالص للمرضى المصابين بالشفاء العاجل ان شاء الله والعودة إلى ذويهم سالمين وفي صحة جيدة.
أتسائل ما التغييرات التي طرأت عليك وعلى نمط عيشك في ظل هذه العزلة-الحجر الصحي-؟
*من الذي اقنعك بذلك ؟
من الذي اقنعك أن الله إذا ابتلانا بمصيبة كيفما كانت فإنه دليل وبرهان على غضبه وانتقامه وسخطه .من أفتاك بهذه الفتوى ،أولم يبتلي اللهُ نبيه أيوب عليه السلام بمرض عُضال طال به 18 سنة ، أولم يبتلي الله نبيه يوسف عليه السلام بمكر إخوانه ومكر امرأة العزيز والزّجِّ به في السجن 12 سنة ، أولم يبتلي الله خير البشرية محمد صلى الله عليه وسلم باليُتم أبا فأما وابتلاه باذيةالمشركين له وبموت سنده وسكنه وحبيبته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.وقِس على ذلك ابتلاءات أنبياء الله اجمعين وصحابة رسول الله وأولياء الله الصالحين. لذا كن على يقين أن الله إذا ابتلى عباده فإنه لن يطيل بهم هذا البلاء وأنه ما أراد به إلى امتحاننا و اختبار إيماننا، أخلاقنا، صبرنا و رغبتنا في تغيير ذواتنا . لذا دعني اسرد عليك بايجاز بعضا من محاسن ومزايا -ولا اقول الوباء في حد ذاته وإنما ما نتج عنه من تغييرات وتحسينات فردية أو جماعية-وأخص بالذكر مزايا الحجر الصحي:
*مع العائلة لا شك أنك قد لاحظت تقليص تلك الفجوة العاطفية والعائلية خلال هذه الفترة. فهل تذكر كم من الوقت كنت تقضيه وزوجتك(أو زوجك) وأبنائه وأهلك، وكانت لا تجمعك بهم إلا مائدة الطعام وأحيانا لا يتسنى لك حتى ذلك. لكن الان الوضع مختلف تماما، تجد الوقت لمغازلة زوجتك والحديث المطول معها ، تلعب مع أبنائك وتسهر على دراستهم عن بعد وقد تساعد زوجتك وبكل سرور وبدون ضجر في أعمال المنزل، ولا أنسى فلطعم الاخوة والمشاكسة والمرح حديث يطول …
وقس على ذلك الكثير من الأنشطة اليومية التي زادت الأجواء مرحا وأُلفة ومحبة ورحمة. لذا لا تحزن من هذه المصيبة فأنت لا تعرف سر المسألة.
*مع روحانياتي: في عز هذه المحنة كم كان اقبالك على الله وعباداته كثير ووافر، حتى أن الصلاة حَنّت لدموعنا وخشوعنا -بعد أن كان يطول سهونا في الصلاة ونحن منشغلين بمشاغل الدنيا وهمومها. ولصيام شهر شعبان ونحن في بيوتنا وقع روحي آخر الشهر الذي ترفع فيه الأعمال إلى الله وما اَحوَجنا لذلك. ناهيك عن تلاوة القرآن الكريم تدبرا وتأمل وتمعنا في آيي الله بعد أن نفظنا عنه غبار الهجر. لذا لا تنسوا أن تاخذوا حظكم من العزلة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
*مع أخلاقي: أستطيع أن أجزم أن هذا الحجر الصحي قلّص من نسبة المشاحنات الكلامية في العمل أو المؤسسات التعليمية أو الإدارية الناتجة عن الضغوطات اليومية. أضف إلى ذلك أن الاختلاطات الاجتماعية قلت-ان لم أقل انعدمت -وقلّ معها كل المعاصي المرتبطة بالاختلاط من نظر وقس على ذلك الكثير من الاخلاقيات التي عرفت لها مكانا في هذه الفترة.
*مع علاقاتي: لا يستطيع أحد ان ينكر أن هذه المحنة ابانت على معادن كثير من الناس خاصة المقربين منك ، فذاك الصديق الذي كنت تَخَالُه كذلك والذي كانت لا تربطه بك إلا مصلحة أَفَلَت وانقضت بحلول هذا الوباء فقطع حبل الصداقة بينك وبينه.وتلك الزوجة الحنون العطوف الودود العاشقة الولهانة التي كنت تخالها كثيرة النكد وتعكر مزاجك عند رجوعك من العمل -لأنها افتقدتك واشتاقت لك-ها هي ذا الآن تُغدِق عليك بأجود ما لديها -بحُسنها- وتطرب اذناك بكلام رطب وعذب ومعسول وتسقيك كأس الاحترام والولاء لحبك. لحظة ، لقد كانت كما هي عليه الآن لكنك كنت أعمى البصر بسبب ضغوط الحياة اليومية وهاهي ذا بَصِيرتُك تبصر نورا في عز هذا الوباء .
*شباب مبدع ويعُجُّ بالأمل والخير: حتى ذاتك نالت نصيبها من مزايا هذا الحجر الصحي فالبعض منا قرأ في هذا الشهر من العزلة الكثير من الكتب والروايات الهادفة -ولا يهم الكم بقدر ما يهم الكيف-المهم انك تعيش كل موقف وكل مشهد من الرواية ، كل كلمة وكل عبارة. ولا أحد ينكر انها كانت فرصة لنعطي لذواتنا المرهقة بضغوط الحياة اليومية حقها في الاسترخاء والتأمل. وكانت فرصة كذلك لأولئك الذين يهيمون في واد الرسم بشتى ألوانه. فصدقا لقد ابانت هذه الفترة عن أنامل مبدعة وحناجرة مطربة وشباب مبدع كله امل وطاقة إيجابية وُمُرهَف بالفن ، هذا الشباب الذي لم يحالفه الوقت سابقا ولا حتى تلك النفسية المرهقة والمنشغلة بالدراسة أو العمل أو ايا كان ذلك الحاجز الذي حال دون سكب ابداعاته في قِدر من الاحساس والذوق الفني …
*غاب الإنسان عن الطبيعة فرقصت فرحا يكفيك أن تسأل الطبيعة عن رأيها في هذا الوباء ومخلفاته، فستخبرك انها تتنفس الصعداء وتعيش فصل الربيع كما لم تعشه من ذي قبل ، فإذا امعنت النظر لوجدت أن نسبة التلوث البيئي قد انخفضت بانخفاض أنشطة الإنسان وما ينتج عنها من انبعاثات دخان المصانع ووسائل النقل .. وإذا نظرت للموضوع من زاوية أخرى تجد أن نقاء وصفاء الطبيعة له وقع إيجابي وتطهيري لروحك انت .
وانت تحدق بالسماء ستجد أن الطيور تزقزق ابتهاجا وتستعرض في الجو عظمة خالقها ، وستجد أيضا أن السماء هطلت أمطار مِدرارة هذه الفترة وكأنها تبكي حمدا وشكرا لله على هذا البلاء الذي جعل الإنسان يعلن هدنة مع الطبيعة و يَكّف يده عن مسببات هلاكها .
*كوفيد والتمريض: أبيت إلا أن أتحدث عن وقع هذا الوباء على واقع مهنة التمريض بالمغرب ، مهنة لم تنل نصيبها من الاعتراف المجتمعي ولا حتى القانوني ، مهنة لطالما ناضل ممرضون وممرضات من أجل كرامتها وصمودها منذ أن عرفت النور في بلادنا إبان الحماية الفرنسية .لكن كوفيد 19 ابان حقا وبصورة جلية عن هؤلاء الكوادر الصحية الذين يطلق عليهم اسم الطاقم شبه الطبي ، لكنهم في حقيقة الأمر ليسوا كذلك البتة -ليسوا أشباه اطباء-بل كيان مستقل له وزن ودور-أكاد اقول -مركزي واساسي في المجال الصحي ولك أن تنظر إلى موقعهم الآن في تصدي هذا الوباء -أمام فوهة المدفع وفي الصفوف الاولى-لتعرف صواب وصدق اخلاصهم وولائهم للوطن .فشكرا لكل ممرض وممرضة تصدى لهذا الوباء وضحى بالغالي والنفيس -ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا-شكرا ولا يُوفّي الشكر حقهم.
ختاما عليك بالدعاء واجعل من هذه المحطة مرحلة طفرة إيجابية وابْقِي على العادات والأخلاق الحميدة التي اكتسبتها طيلة هذا الاختبار ، ولا تنسى أنه:
“سنحيا بعد كربتنا ربيعا كأننا لم نذق في الأمس مرا
ان النصر مع الصبر ، وان الفرج مع الكرب ، وان مع العسر يسرا.
ولَرُبّ نازلة يضيق بها الفتى ذرعا وعند الله منها المخرج ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرجت وكان يظنها لا تُفرح”
في البلاء أربعة فنون: احتساب الأجر ، معايشة الصبر ، حسن الذكر وتوقع اللطف.